Culture Magazine Monday  26/11/2007 G Issue 224
قراءات
الأثنين 16 ,ذو القعدة 1428   العدد  224
 

الريادة الروائية
بين نعمان القساطلي وميخائيل الصقال
نبيل سليمان

 

 

لعل من المفيد أن يبدأ القول بالإلماع إلى ما كان قد تحقق من الريادة الروائية خلال أقل من أربعة عقود تفصل بين روايتي (غابة الحق) و(دُرّ الصَّدف) لفرنسيس المراش، وبين رواية ميخائيل الصقال (لطائف السمر في سكان الزهرة والقمر أو الغاية في البداءة والنهاية - 1907). فقد تواتر الإنتاج سريعاً، وكانت الاستجابة لنداء الصحافة عاملاً حاسماً في ذلك، إذ فشت ظاهرة نشر الروايات مسلسلة في الدوريات، وعبر ذلك فشت ظاهرة تعريب الروايات الأجنبية.

لقد كان على الرواية أن تواصل النهوض بحمولتها من المشروع النهضوي. لكن ذلك ما عاد همها الوحيد، وإن كان قد ظل الأكبر، لأن شطراً غير قليل باتت غايته التسلية والمتعة. وقد أثار ذلك، مع ما تحقق في الرواية من تطويع اللغة وتهجينها بالعامي وبالأجنبي، ومع اشتغال الرواية على الراهن (الواقع) وعلى الفرد.. أثار سخط المحافظين، فتعالى الحديث عن تنظيف الرواية مما ينافي الحشمة أو ينقد رجال الدين، ومما يُعدُّ من الألفاظ البذيئة. كما تعالى الطلب من الرواية أن تعنى بتربية الشباب بخاصة، وبالتربية والتثقيف بعامة. ولئن كان صدى ذلك كله سيظل يترجع عالياً أو خافتاً حتى اليوم، فقد ظلت الرواية تكابد الريادة من فرنسيس المراش إلى سليم البستاني ونعمان القساطلي وزينب فواز وأمين رسلان... حتى إذا أطل القرن العشرون تواترت روايات محمود خيرت ومحمود طاهر حقي وفرح أنطون ومحمد المويلحي و... وميخائيل الصقال. ولكن قبل أن نبلغ ذلك، قد تكون الوقفة التالية مفيدة بالنظر في أنموذج ريادي من حلب أيضاً، هو نعمان القساطلي (1855- 1920) الذي نشر ثلاث روايات في مجلة (الجنان) البيروتية التي أصدرها سليم البستاني.

نعمان القساطلي:

في عام 1880 جاءت رواية القساطلي الأولى (الفتاة الأمينة وأمها) لتحكي قصة عاشقين وهما يواجهان العقبات ويتقلبان في المغامرات إلى أن تأتي النهاية السعيدة بزواجهما. وقد أثقلت على الرواية تدخلات الكاتب الواعظة، المباشرة كما في مقالته التربوية عن تعليم الأمهات لتربية بناتهن، على العكس مما صور من شخصية الأم المحافظة المتكبرة المنصرفة عن ابنتها، والتي ستفجر وتسب وتلعن ابنتها أمام الآخرين. ويبدو الصراع بين الماضي والحاضر (القديم والجديد - المحافظ والعصري) هاجساً للقساطلي، عبّر عنه في هذه الرواية بما لاقى العاشق في هذه الرواية، وهو الذي (حلم) بما سيواجه من المشاق، إذ ضربه رجل على رأسه فأغمي عليه، وألقاه الرجل في بئر، ووضع على صدره وريقة كتب عليها: (مت كمداً فهذا جزاء من يحاول هدم سياج الأعصر الفارطة، وكسر حرمة العوائد الماضية، والمعول عليها عند أهالي الأجيال الخالية).

تقدم رواية القساطلي (أنيسة) التي نشرت في مجلة (الجنان) عامي 1881- 1882، قصة حب أيضاً بين أنيسة وأنيس الذي ستصرفه عجوز محتالة عن الحبيبة إلى ابنة التاجر التي تعشقه. ومثلما تدافرت المصادفات في الرواية الأولى، تتدافر هنا، وستتدافر في الرواية الثالثة (مرشد وفتنة) التي نشرت عام 1881 في مجلة (الجنان). بل إن أنيسة في الرواية الثانية تحلم بلقاء أنيس تمهيداً لما سيلي من أحداث، فيتكرر توسل الحلم مفتاحاً وإهاباً، كما كان العاشق في الرواية الأولى، ولعل ما ختم به القساطلي الرواية الثانية أن يؤشر إلى ما تعني له الرواية، إذ كتب: (وقف هنا القلم، وانتهى ما رأيت لزوماً لإثباته في هذه الرواية المخترعة من المواضيع الأدبية، والنكات الحكيمة، والحوادث الحبية، والنوادر الصدفية، وجعلتها خدمة لشباب وشابات وطني العزيز). وتعزز ذلك خاتمة الرواية الثالثة (مرشد وفتنة) إذ كتب القساطلي: (وهنا انتهى ما أردت تعليقه بهذه الرواية المبتدعة من أحوال العرب وآدابهم وعوائدهم ومشاربهم وحبهم وأفراحهم، وما يهمهم، مما قدرت أن أقف عليه في مدة أسفاري). وقد زجّ الكاتب في هذه الرواية فصلاً عن شرع البدو وأحكامهم، وتوّج الرواية بفوز (كل محب بمحبه بعد طول عناء وأوصاب)، وبهذا (انتهت جميع مشاكل الرواية في تلك الليلة التي هي ليلة السبت لثلاث عشرة خلون من شهر آب سنة 1880). ولا تخفى الإشارة هنا إلى تعالق زمن الكتابة بزمن الرواية، وهو ما كان وما ظل غالباً في الرواية الريادية قبل أن يلتفت جرجي زيدان إلى التاريخ.

ميخائيل الصقال:

بخلاف هذا النصيب المتواضع لنعمان القساطلي من الريادة الروائية - ومثله غير قليل في المدونة الريادية الروائية العربية - تأتي رواية ميخائيل الصقال مذكرة بريادة المراش، وبخاصة أن تأثير (غابة الحق) لا يخفى في (لطائف السمر...). فالصقال ينصّ في مقدمته لروايته على أنها كتاب، وقد جاءت في تسعة أبواب، يتوزع كل منها إلى فصول. وبعد أن يترجم الصقال لنفسه ثم لأبيه، يذكر أنه رجا والده أن يتجلى له بعد موته ليخبره بما جدّ له، فكان أن تجلى الأب لابنه في حلم سنة 1 901 - بعد ستة عشر عاماً من وفاته، وبعد ما بلغ الابن التاسعة والأربعين - وأخذ يحدث ابنه بما سيكون رواية (لطائف السمر..). وهذا التخييل يخاطب نظيره (الحلم) في (غابة الحق). بيد أن التخييل في رواية الصقال لا يجردها من الزمان والمكان إلا فيما يرويه الأب عن وقفته في مجلس القضاة الأصغر، حيث كُتب فوق رأس أوسطهم (الحق) وفوق رأس الميامن (العدل) وفوق رأس المياسر (الحكمة). كما أن التخييل في هذه الرواية يبلغ مبلغ الرواية العلمية، فيما يروي الأب من الحياة والموت في الزهرة، وبما تبتدعه المخيلة من الآلات الزراعية (كالقلاب والسابر والمجفف والمنظف و..). ويبلغ التخييل شأوه في هذا الذي يرويه الأب في فصل (في المطابع) من الباب الرابع، لكأنه يخاطب مستقبل وأخيولات ما بلغناه اليوم من عصر الصورة الإلكترونية والكتاب، فيقول: (يقف أحدنا أمام المطبعة يتلو كلامه فتنقله بأسرع من لمح البصر، وتقدمه إليه مطبوعاً طبعاً جيداً متقناً بحروف جلية ينبعث منها في خلال سطورها نور لطيف لمن كان ضعيف البصر فيقرأها غير محتاج إلى منظر. وإذا كان لا يريد أن يذهب إلى المطبعة، فيقول وهو في داره: يا صاحب المطبعة الفلانية (تهيأْ)، فيسمع حالاً قائلاً يقول: (اقرأْ)، فيقرأ المقالة وبعد دقائق يراها بين يديه مطبوعة. وإذا أراد فيضعها في آلة عنده فتنقلها وتضعها أمام المطبعة فتطبعها حالاً، وإذا أردت أن يتكلم الكلام المطبوع بما فيه من الكلام تكلم كلاماً فصيحاً، أما آلة التكلم فإنها مخبأة في الجلد اللطيف، لا تراها لدقتها، وإذا طبعت صورتك في كتابك قرأته عنك بصوتك ولهجتك كأنك أنت تقرأه).

لكن لعبة (التخييل) في (لطائف السمر...) ليست سوى الوسيلة الفنية التي توسلها الكاتب ليقول قوله في مجتمعه وعصره، وبذا وصلت الرواية بين كواكب الأب وأرض الابن وهي ترسم طبقات العباد في الزهرة وفي الأرض، أو تهتك الوحش في الإنسان وتنبذ القتل السياسي أو الديني كما تنبذ التعصب والسجون والمنافي، وتخصّ بنصيبٍ الطفولة والتربية وبنات الهوى والمنتديات والملاهي والأطباء والتدخين وعلل التمدن الإفرنجي والزواج عند المسيحيين (البائنة - الدوتا) واللباس والصناعة والزراعة والدين واللغة.

بين الأمثولة التي يحياها الأب بعد موته، والواقع الذي يحياه الابن، يتوالى تخييل الرواية للمشروع النهضوي، مؤسّساً بالنقد ومبشّراً بالبديل، ومتجذراً في الزمان والمكان وهو يرمح في الزهرة أو حلب أو القمر أو القرن التاسع عشر أو يومنا هذا من القرن الحادي والعشرين، حين يخاطب الأب المحامين: (ويا ويلكم أيها المحامون الظالمون الذين يساعدون الباغين على بغيهم... أنتم مبدأ الطمع ومعدن الفساد... أنتم منبع الشر وجرثومة المكر... أنتم أصل الظلم ومنجم الباطل)، وكذلك حين يقول: (انظروا إلى الكثيرين من قضاتكم وأعضاء مجالسكم: هل هم حكماء وهل يصلحون للقضاء، هل هم قانونيون، وهل لهم من الحجة والمعرفة ما يؤيدون به الحق؟). وها هو الابن يطلب من أبيه في آخر فصول الرواية (كشف السر والختام) أن يريه شقيقته الصغرى وبناته الثلاث المقيمات في الزهرة بعد موتهن، فيحضرن في غير هيئة سكان الأرض، والأب لا يسمح لهن بالزواج (إلا بعد أن يرجع إلى الزهرة آخر سجين في الأرض من أقاربهن).

في خاتمة الرواية هذه يوصي الأب ابنه أن يطبع كل ما سمع منه في كتاب لتعم الفائدة، ويقول: (إني أريد أن لا تكتب بلغة عالية كما يفعل أكثر كتبة العرب فيحبسن تآليفهم عند العامة مع إنها أولى بها من الخاصة فقلت: أخشى أن أجمع بين العامي والفصيح فلا أدرك الغاية. فقال: اكتب الكلام والعبارات التي دارت بيننا نفسها وهي لغة قريبة الفهم ما خلا بعض كلمات لابد منها فاجعل لها شرحاً). ولغة الرواية إذن هاجس للكاتب الذي ينتبه أخيراً وقد أظلم الليل، فيتساءل: (ما هذا يا ربي؟ أكل هذا منام؟ إن في الأمر لعجباً).

على الرغم من هذا التخييل الناشط في (لطائف السمر...) يذهب موسى بيطار في تقديمه لطبعة 2006 من هذه الرواية - والتي ذكر فيها خطأً أنها الطبعة الأولى - إلى أن (هذه الرؤية التي صاغها الصقال ضعيفة الخيال، لا نجد فيها هذا الخيال الخصيب الذي يحلق بقارئه تحليقات خفاقة الجناح في كل أرجاء الكون، أو هذا الخيال الوثاب الذي يقفز قفزات واسعة في دنيا فسيحة الأرجاء، فرؤيته لا تعدو أن تكون وصفاً لطقوس التوبة التي تتم في مدينة القضاة، ودور قضاة الزهرة في تحقيق قيم الحق والعدل والحكمة). ويعلل موسى ما يراه من الاختلال الفني في بناء معماري خيالي قائم على التصوير والتلوين والتجسيم، بأن الصقال كان شديد الانغماس والالتصاق بواقعه، فقد أراد أن ينقل بصدق ما يجري على الأرض بشكل عام، وأن يصور بأمانة ودقة في التعبير لا تخلو من جرأة وصراحة ما يجري في المجتمع السوري بشكل خاص). لكن الخيال في (لطائف السمر...) حلق في زحل والزهرة والقمر والأرض، ومضى في الأرض حتى بلغ حرب الإنكليز والبويرس، فما هو إذن الخيال الخصيب والوثاب؟ ألا يؤكد النظر إلى فصل القضاة وحده في سياق الرواية، خيالها الوثاب حتى كما أراده بيطار؟ أما تشخيصه لارتباط الصقال بالواقع (الراهن/ الحاضر) فصحيح، ولئن صح قوله بالاختلال الفني في بناء معماري خيالي... فالتعلل بذلك الارتباط لا يبدو مقنعاً، بل لعله هو ما خفف من الاختلال جراء إثقال المتناصات الشعرية - مثلاً - على الإيقاع السردي. ومهما يكن يظل لرواية الصقال نصيبها من الريادة الروائية التي ابتدأتها رواية (غابة الحق) التي لا يخفى أثرها في البابين الثامن والتاسع بخاصة من (لطائف السمر...). ولئن كان شرف البداية يظل لرواية (غابة الحق) إلى أن تظهر روايتا ميخائيل الصقال، فما أنجزته (لطائف السمر..) من الريادة الروائية يتعزز بما تواتر إبان صدورها، في سورية قبل أن تتجزأ، وفي مصر والعراق، مما أسس لما أدعوه بالولادة الثانية للرواية العربية منذ ثلاثينيات القرن العشرين على يد محمود تيمور وتوفيق الحكيم وابراهيم المازني ومحمود طاهر لاشين وطه حسين وشكيب الجابري وأقرانهم. على أن أصداء الولادة الأولى ظلت تترجّع، ولكن دون أن يكون لها شرف الريادة، بل عبء الاجترار والتخلّف عما جدّ، وما فتئ يجدّ جيلاً بعد جيل، فكانت بفضله المكانة التي بلغتها الرواية العربية، والتي ما كانت لتكون لولا ما أنجزته الريادة.

- اللاذقية


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة