Culture Magazine Monday  26/11/2007 G Issue 224
قراءات
الأثنين 16 ,ذو القعدة 1428   العدد  224
 

فيدور دوستويفسكي وتأملات في
(النفس المرتفعة الإدراك والمثقلة بالهواجس)
رحمة الزبيدي

 

 

يقول نيتشه في معرض حديث له عن دوستويفسكي: (هو عالم النفس الأوحد الذي تعلمت منه شيئاً).

(فيدور) روائي روسي من القرن التاسع عشر، وهو ممن صنع خطاً جديداً في الرواية الروسية، وخاصة الاجتماعية منها، حيث ينظر له مؤرخو الأدب والنقاد كأعظم ثلاثة روائيين كانوا في ذلك العصر: (تورجينيف, تولستوي، ودوستويفسكي).

وإن مزية فيدور تتعدى كونه روائيا، إلى كونه إنسانا خبر النفس الآدمية بجميع تقلباتها وأصنافها.

كما أنه قد توغل لمكامن النفس الإنسانية، وعوالمها الخاصة والعميقة.

وللحق إن الحديث عن روائي عظيم كفيدور يملأ النفس بالغبطة، وبأشد درجات الحماسة.

يلذ لي حقاً أن أسهب في سرد تاريخ هذا الرجل الذي كان بالنسبة لي أكثر من أستاذ، كان صديقي.

ولأن الحديث عن تاريخ هامة من هامات الفن الروائي الروسي كفيدور يعتبر مغامرة خاصة عند النظر لقليل ما نقل لنا مترجماً من التراث الروسي فسأكتفي في مقالي بتأملاتي الخاصة، التي نتجت من قراءة آثار هذا الأديب الفذ، دون الدخول في معمعات التاريخ الشخصي والفني له.

إن المتتبع للبناء النفسي والتركيب الفكري عند أبطال (دوستويفسكي) يلحظ بشدة أن من أكثر ما يثير روح صاحبنا ثلاث فئات من المجتمع: الفقراء المساكين عديمو الثقافة.. طبقة الأثرياء مع تركيزه على أصحاب الثقافة المرتفعة منهم والمثقفون أصحاب الروح الفنية.. متقلبو الروح والواقعون تحت وطأة الفقر والعوز.

إن معالجات فيدور لروح كل فئة من هؤلاء الفئات يندرج تحتها تصنيفات مختلفة: من فقراء بأرواح ساذجة ذليلة إلى فقراء بأرواح مترفعة. ومن أغنياء مثقفين يشعرون بمأساة الشعب الروسي إلى مثقفين أغنياء لم يكن لهم من الشعور بالشعب إلا الحماسة الجوفاء... إلى آخر تصنيفاته الواسعة التنوع.

غير أن ما يهمني أنا من كل هذا فئتان فقط أمرر عبرهما تأملاتي (المثقفون أصحاب الروح الفنية السوداوية، الواقعون تحت العوز، والفقراء مترفعو النفس قليلو الثقافة).

إن فئة الفقراء أصحاب الروح المترفعة عزيزة النفس غير المثقفة، وصاحبة النظرة الساذجة في تحليلها لظواهر الحياة الواقعة بها، تظهر في أبطال فيدور على صورة تبلغ درجة من النقاء الروحي؛ بحيث تستطيع استشعار تلك الهواجس المتألمة السوداوية والغاضبة لأبطاله الآخرين من أصحاب الفكر والثقافة والمتشاركين معهم ذلة الفقر، المرتفعين عنهم بمزية الثقافة.

ومثالنا في ذلك الفتاة البغي والجاهلة (ليزا) في مقابل الرجل المثقف كاتب المذكرات لرواية (الرجل الصرصار). وأيضاً الفتاة البغي الأخرى وقليلة الثقافة (سونيا) في مواجهة مع (رسكولينكوف) الفتى الجامعي المثقف، والمعذب بجريمة القتل التي اقترفها.

كما تظهر هذه الفئة الجاهلة من بعد تجارب حياتية قاسية مرت بها وكأنها قد خبرت مشاعر الذلة والألم والعذاب النفسي العميق، لكن من دون تحليل عقلي فلسفي لذلك الوجع، بل ومن دون وضوح فكري لما يحدث لها، على عكس فئة المثقفين المضطهدين.

ولذلك نجد أن سونيا وليزا عندما استمعت كل واحدة منهما لصاحبها المثقف وهو يبوح لها، فإنها فهمت عنه معاناته النفسية، والوصف التجريدي لشعوره، دون أن تفهم الأفكار والرؤى والمعتقدات والدوافع الفلسفية لصاحبها.

برأيي إن سذاجة الفقراء قليلي الثقافة تجعلهم يرزحون تحت ذلك الثقل للفقر، ومصائب الدنيا، متمسكين بمثل دينية، خرافات شعبية، ونقاء نفسي ينبع من السذاجة البيضاء لأرواحهم، مما ينقذهم من التهاوي في الغضب والإنكار على رب السماء على عكس رفقائهم في الفقر من المثقفين.

وبهذه الصورة المهيكلة لهذه الفئة البسيطة يتمثل معظم الشعب الروسي في نظر دوستويفسكي، يخرج من هذا الإطار المقولب فئة المثقفين الفقراء، وفئة استبد بها اليأس المطلق؛ فجن، انتحر صاحبها أو أجرم، وهم قلة.

أعتقد بإيمان جازم أن اليأس المطلق هو أسوأ المشاعر التي يبتلى بها أفراد المجتمع عندما يشعر الإنسان حقيقة بأنه يعيش في (الصقيع والفراغ) كما وصف فيدور نفسه ذات رسالة؛ إن هذا اليأس المستبد يفتك بالأخلاق والمثل السامية، بحيث أن أي إذلال أو شعور بالفضيلة لا يصبح له ذلك الأثر الخلاق والمؤثر عند الأشخاص الغارقين حتى أطراف خصلات شعرهم: بالشعور بعدم الجدوى وعدم الرجاء..

يقول فيدور في رسالة لأخيه: (من المحزن أن يحيا المرء دون رجاء يا أخي.. إني أنظر أمامي، فأرتاع للمستقبل. وإني لغارق في جو جليدي، قطبي، حيث لا يلمع شعاع شمسي واحد. ومنذ زمن طويل لم أعرف همهمات الإلهام، وبالمقابل فما أكثر ما عانيت أحاسيس سجين شيللون في زنزانته، بعد موت إخوته).

ومرة أخرى (لا أدري ما إذا كانت أفكاري الكئيبة ستتبدد يوما.. إن لدي مشروعا.. أن أصبح مجنونا).

وهكذا نجد كاتبنا يتهاوى هو نفسه في الرذيلة عندما يشتد به اليأس، غير أن له نفسا تفيض بالتكفير والاعتراف، مما يحدوه إلى بناء هيكل من النسيج النفسي والفكري لبعض شخوص رواياته يصور من خلاله روحه.

ثم يعذب تلك الشخصيات بالتكفير والندم، ويضطرها بهذا إلى الألم والمعاناة الشديدة التي تشكل روح الخلاص بالنسبة لفيدور.

إن أبطال فيدور هم بالفعل: (أفكار تمشي على الأرض).

غير أن الروائي العظيم يلامس تلك الأفكار بكل أشكالها شرحاً ووصفاً، لينطق بأعمق ما فينا من مشاعر، مما قد نخجل حتى من التفكير به مع أنفسنا.. لقد درس فيدور مشاعر الانفصام النفسي، وكشف بسبره العميق للروح عن ذلك التناقض الذي يعشعش في ذات الإنسان.

كما غرق بشكل خاص في وصف الشك والهواجس والمشاعر النابعة من نفس ذكية بعمق يبهرك: (وفكرت ثانية وثالثة، مخاطباً الأريكة التي كان أعدائي يجلسون عليها، رغم أنني ظللت صامتاً: آه لو تعرفون الأفكار والمشاعر التي أنا قادر على الشعور بها! آه لو تعرفون كم أنا ذكي..

بحيث يجعلك نفسك تردد مع الروائي النمساوي ستيفان تسفايغ مقولته: (إن دوستويفسكي هو أول إنسان أعطانا فكرة عن الناس الذين هم نحن....).

ولأن فيدور توغل في النفس البشرية إلى حد الوصول لمناطق شائكة من صورتي: الخير والشر المركب في طبع الإنسان، فإننا نجده يذهب بنا من بعد وتلقائياً, لمنحى حاد من دراسة دوافع الجريمة، الخارجة عن دافع الفقر، والمرهونة بفكرة التفرد والعظمة.

حيث نجد أن مثقف فيدور في (الجريمة والعقاب) يبرر جريمته الأخلاقية بإرث فلسفي عن العظمة والقوة والانتخاب، استبد بروحه.

إن بطل الجريمة والعقاب (رسكولينكوف)، يرزح بدءاً تحت وطئة الفقر واليأس فيفكر بسرقة وقتل تلك المرابية العجوز التي يصفها ب(الحشرة التي تمتص دماء ضحاياها)، غير أن جريمته وهو الرجل الباسل الإنسان الحساس المثقف كان لا بد أن تلبس في ذهنه كل زينتها من المبررات الفلسفية لتصل إلى شرعنة لوقوعها، يتناسب مع روحه الطيبة.

وهي بهذا التلبس المخيف لكل تلك المبررات الفلسفية، إنما أصبحت خارجة عن حقيقة حاجته للمال، منتقلة لشعور آخر ملح من الرغبة بتحقيق القوة المتفردة والعظمة، بحيث أن عوز (رسكولينكوف) ويأسه قد أصبح سبباً ثانوياً لم يعد في الحسبان بالنسبة لدراستنا وتبريرنا لتلك الجريمة!.

لقد أصبح القتل بالنسبة لرسكولينكوف فكرة ملحة مهووسة، تدفعه دفعاً للجريمة، محاولاً من خلال فعلته التأكد من حقيقة فكرته.

لقد خرج (رسكولينكوف) بسبب من ثقافته عن نمط المجرم العادي، وغدا صريع الفكرة، مما جعل تلك الصورة من القتل صورة من الفن.. إن هذا يذكرنا بطريقة ما بقول ذلك الحكيم الذي قال: (المثقفون أقدر الناس على الخيانة، لأنهم أقدر الناس على تبريرها).

لكن دوستويفسكي يخرجنا من تلك اللذة الفنية للجريمة، بالعقاب الشنيع الذي يوقعه على بطل روايته، العقاب الذي ينبع من ضميره أولاً، ثم بعقوبة القوانين القضائية المسنونة ثانياً.

الرياض


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة