Friday 11/10/2013 Issue 14988 الجمعة 06 ذو الحجة 1434 العدد
11-10-2013

شخصيات ومواقف: أيوب السختياني

العالم الزاهد أيوب بن أبي تميمة: كيسان السختياني، ولد في حدود عام 66هـ، بصري النشأة والإقامة، من خيرة التابعين، وأحد الأعلام النجباء، روى أكثر من 800 حديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال عنه الذهبي، الإمام الحافظ سيد العلماء، عِدَادُهُ في صغار التابعين، مولده عام توفي ابن عباس،

سمع من بعض الصحابة، وكبار التابعين، وحدّث عنه مجموعة من التابعين وكبارهم، وذكر عنه صفحات عديدة، هي منتهى الورع والنبل، فقد كان إذا ذكر له حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، بكى حتى أن من حوله يرحمه، وكان مع عبادته يخفي صلاته في الليل، ابتعاداً عن الرياء، فقد حدث سعيد بن عامر عن سلام قال: كان أيوب السختياني، يقوم الليل كله، فيخفي ذلك، فإذا كان عند الصبح رفع صوته كله، كأنه قام تلك الساعة.

وكان يبغض مذهب أهل الرأي، وهم الذين يغفلون عن الدليل النقلي من الكتاب والسنة، ويميلون إلى العقل والقياس، قال حماد بن زيد سمعت أيوب، وقيل له: مالك لا تنظر في هذا - يعني الرأي فقال أيوب: قيل للحمار ألا تجترّ؟ فقال: أكره مضغ الباطل.

وكان يبغض أهل الأهواء، وهم أصحاب المذاهب والنحل التي بدأت تدخل المجتمع الإسلامي، مع رغبات وخلفيات الأمم المغلوبة، من هنود وفرس ويونان وغيرهم، الذين دخل الإسلام منهم بخلفية مذهب قومه، فأحدثوا في المجتمع الإسلامي مذاهب تقوم على الجدل والفلسفة كالقدرية والمعتزلة والجهمية ومعتقدات بعض الخوارج، الذين خالفوا أهل السنة والجماعة.

فقد قال سلام بن أبي مطيع: رأى أيوب رجلاً من أصحاب الأهواء، فقال: إني لأعرف الذّله، في وجهه ثم تلا: {سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ}، ثم قال: هذه لكل مفترّ، وكان يسمي أصحاب الأهواء خوارج، ويقول: إن الخوارج اختلفوا في الاسم واجتمعوا على السيف، وقال له رجل: من أصحاب الأهواء يا أبا بكر أسألك عن كلمة؟ فولى وهو يقول: ولا نصف كلمة: مرّتين.

وما ذلك إلا إنكاراً لهم، ولم يجرِ إليه قولهم بالهوى، لأنه كما قيل عنه: من أفقه العلماء في دينه، وكان حماد بن زيد من ألصق الناس بأيوب، وأعلمهم بطباعه يقول حماد: ما رأيت رجلاً أكثر ما يقول لا أدرى ومثله يونس - يعني أيوب - وكان الرجل إذا سأل أيوب عن شيء ليس عنده فيه شيء قال: سل أهل العلم، آخذاً من قوله تعالى: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}.

وإذا سأله رجل عن مسألة استعاده، فإن أعاد عليه مثل ما قال له أولاً أجابه، وإن خلط عليه لم يجبه، ففي المسألة الأولى دلالة على خوفه، أن يفتي بدون علم، فيقع في الإثم إذا أضل الناس، بغير دليل مقنع، وفي المسألة الثانية: يسبر غور السائل هل هو صادق في مسألته أو متقلّب، وهل هو حافظ لينقل عنه ما أفتاه به سليماً أم يختلط في النقل مثلما اختلط في السؤال، فينسب إلى أيوب، ولذا نراه يقول: ومَنْ يَسلَمْ؟ إن الرجل ليحدّث بالحديث، فيرى أنه قد وقع، من القوم موقعاً فيخالط قلبه من ذلك شيء، وهذا القول ينبئ عن مخافته من زلّة العالم حيث يزل بزلته خلق كثير يخاف من نقل أهل الأهواء، فيقولون عنه ما لم يقله.

يقول حماد بن زيد: سئل أيوب عن شيء، فقال: لم يبلغني فيه شيء، فقال السائل: قل فيه برأيك، فأجابه: لم يبلغه رأيي.

ما نسب إليه حماد بن زيد قوله: إن قوماً يريدون أن يرتفعوا، فيأبى الله إلا أن يضعهم، وآخرون يريدون أن يتواضعوا فيأبى إلا أن يرفعهم، وما ذلك إلا أن أيوب كان يكره الشهرة ويحب التواضع، ويقول تلميذه حماد بن زيد: كان لأيوب برد أحمر يلبسه إذا أحرم، وكان يعده كفناً، وكنت أمشي معه، فيأخذ في طرق، إني لأعجب له كيف يهتدي لها فراراً من الناس، أن يقال: هذا أيوب، وقد أدرك شعبة منه هذا الهدف عندما سمعه يقول: ذُكِرتُ ولا أحب أن أذكر.

يقول شعبة أيضاً: ربما ذهبت مع أيوب لحاجة فلابد علي أن أمشي معه، ويخرج من ها هنا وها هنا لكيلا يفطن له، ولعله في هذا يخاف من مداخل الشيطان والإعجاب بالنفس الذي يقود للكبر وكان صديقاً ليزيد بن الوليد، فلما ولي الخلافة، قال أيوب: اللهم أنسه ذكري، وذلك مخافة أن يذكره فيوليه أمراً من الأمور.

وكان يقول ليتق الله رجل، وإن زهد فلا يجعلن زهده عذاباً على الناس.

ولقد قال له رجل: أوصني، قال: أقل الكلام، وفي حسن مقابلته للناس كان بشوشاً يحسن المقابلة، ويؤانس كل من يقابله. يقول حماد بن زيد: ما رأيت أحدا أشد تبسماً في وجوه الرجال من أيوب إذا لقيهم، وهو في هذا المنهج يحرص على تطبيق السنة، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تبسُّمك في وجه أخيك صدقة، ويقول صلى الله عليه وسلم: لا تحقرن من المعروف ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق.

ولذا: محسناً إلى جيرانه محبوباً عندهم، كريماً معهم، يقول حماد بن زيد: حدثني بعض جيرانه، أن قصاع أيوب كانت تختلف كانت تأتيهم ثابتة في يوم الفطر، قبل أن يغدوا.

فهذا من إكرام الجار، ومسرته بالهدية، وخاصة في العيد، حيث يتآلف الناس، ويحرصون على نسيان ما مر من أمر قد يكدر صفو المحبة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تهادوا تحابوا.

هذا من جانب المودة، وتطبيق السنة، ومن جانب آخر فإنه يهمه أن يوسع على جيرانه، وتأمين طعام أسرهم وأولادهم، في يوم العيد، لتستأنس بذلك نفوسهم، إذ في العيدين شُرعت زكاة الفطر والأضحية والإهداء للمحتاجين.

فلعلماء الإسلام أمثال أيوب يحبون أن يبرزوا منهج الإسلام عملاً يريح النفوس ويقرب الآخرين لهذا الدين الذي كان علماؤه هم القدوة فيه، عملاً ومحبة وتآلفاً ومودة.

وعن مؤانسته للآخرين، وتقريبهم قال حماد بن زيد، كان الرجل ليجلس إلى أيوب، فلا يرى الرجل أن أيوب يعرفه، فإن مرض أو مات له ميت، أتاه حتى يرى الرجل أنه من أكرم الناس على أيوب، كما قال حماد: مات يعلى بن حكيم بالشام، وكان مولى لثقيف، وكان منزله ها هنا عندنا في الحي يريد الحي الذي يسكنه أيوب - ولم يخلف إلا أمه، فأتاها أيوب ثلاثة أيام يقعد على بابها ونأتيه نجتمع إليه، ولم تزل تختلف إلى أيوب في منزله، وربما باتت في بيت إلى منزله، وربما باتت في بيت أيوب حتى ماتت، وهذا من تواضع العلماء، في مواساة مثل هذه الأم بفقد وحيدها ليشعرها بعدم الوحدة، وباهتمامه بها فيعوضها بذلك عن فقد ولدها ولا يجعل للشيطان مدخلاً عليها بالحزن، وكان أيوب كما قال حماد: إذا قدم من الحج، أمر بجرادق فخبزت، وبلحم كثير أنْ يطبخ سكباجاً وهو من أجود أنواع طبخ اللحم فكان كل من جاء يسلم عليه، يضع بين يديه، من هذا اللحم والخبز.

قال حماد: فوضع بين أيدينا وقال: كلوا فقد أكلت اليوم بضع عشرة مرة يعني أنه أكل مع كل من جاء ليسلم عليه، وقعد معه فأكل وإياه من هذا الطعام وهذا ما يسميه الناس في الوقت الحاضر أدب المجاملة، مع الضيف حتى لا يستحي، وحتى يؤانسه ويكرمه ويعكس بغضه لأهل البدعة، ويبغض أهل الأهواء، والمعتزلة والبدع، فرحم الله أيوب السختياني لخصاله الحميدة العديدة والتي نقلها تلميذه حماد بن زيد، الذي عرفه ورصدنا هنا قليلاً مما قال، ومما يوضح مكانته ومن بغضه للمعنزلة فقد سمع في آخر عمره يقول عنهم:

إنما مدار القوم أنْ يقولوا: ليس في السماء شيء وقد أوصى بكتبه إلى أبي قلابة.

وكان له كساء أحمر يلبسه إذا أحرم، وكان يعده للكفن إذا مات فإذا كان ليلة واحد وعشرين من رمضان لبسه فقالت امرأته ليلة بأنه خرج في ثوب معصفر، قال حماد فسرقت عيبته بمكة وذلك البرد فيها، قال ابن سعد وأجمع الرواة على أن أيوب مات في الطاعون بالبصرة سنة 131 هـ وهو يومئذٍ ابن ثلاث وستين رحمه الله.

mshuwaier@hotmail.com

 
مقالات أخرى للكاتب