Friday 18/10/2013 Issue 14995 الجمعة 13 ذو الحجة 1434 العدد
18-10-2013

غذاء الطفل

يقول سبحانه في امتنانه على خلقه، وتعليمهم ما لم يعلموا: {وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (النحل آية 78).

هذا الطفل الضعيف الذي خرج إلى الحياة، لا يدري مما حوله شيئاً قد رعته العناية الإلهية في بطن أمه من طور إلى طور، وهيأ الله له غذاءً مناسباً، لينمو ويترعرع شيئاً فشيئاً، حتى تنتهي المدة التي حددها الله له في مهده الأول، وهو بطن الأم، ثم يخرج للحياة بلا حول ولا قوة، ليجد أماً، قد جعل الله في قلبها له حناناً، فكان حجرها له مسكناً، وكان حضنها له راحة، واستقراراً وكان ثَدْيَهَا له غذاءً متكاملاً، ينمو عليه جسمه الضعيف حتى يكمل مدة الرضاعة. وقد أثبتت الاكتشافات العلمية التي هدى الله إليها عقل الإنسان، أن الجسم البشري من أدق المخلوقات وأحكمها صنعاً، وأن فيه أسراراً وعجائب، تحيّر العقول، وتقف دون إدراكها الأفئدة حائرة. ذلك أنه في كل يوم يكشف العقل البشري ويتفتق الجهد عن شيء جديد، يفوق ما كان يتوقّعه بالجهود الإنسانية والدراسات والاكتشافات.

إذ كل دراسة توصَّل إليها العقل البشري، في إيجاد بدائل لما خلق الله في الإنسان، فلا تلبث تلك الدراسة أن تظهر عيوبُها، وتبرز أضرارها على الجسم من حيث أرادوا نفعه، وأن الوضع الطبيعي المفيد للصحة، والذي يحافظ على سلامة الجوهر، في تنشيط الأشياء الخفية، مما ينشّط جهاز المناعة، وهو السر الذي أوجده الله في هذا الجسم، سلاحاً قوياً يدافع الأمراض، ويقي الجسم ضد الأخطار التي تتكاثر حوله، تلك الدراسة أعادت الإنسان إلى الاهتمام بما أودع الله في الغذاء الذي يأخذ منه الإنسان بقدر حاجته من دون زيادة ولا نقصان، لأن في الجسم ميزاناً مرهفاً يقدّر ذلك بهدوء.

وهذا مما يدعو للعجب، ويقتضي الانطلاق، من فطرة الله التي فطر الناس عليها، إذ لا تبديل لخلق الله ولا بديل لما أودعه في الجسم من خصائص، ومعامل دقيقة الصنع، ثابتة النتيجة تحافظ على الإنسان من بداية خلقه حتى اكتمال أجله الذي قدّره الله له.

ونظرة إلى غذاء الطفل في بطن أمه، ثم بعد خروجه للحياة، وحرصه على أخذ الذي يكفيه، وهو الذي لم يدرك شيئاً مما حوله، ولم يعرف بَعْدُ الفارق: بالنافع عن الضارّ.

ولكن الله سبحانه علّمه ما يقيم حياته، وألهمه ما يلبي حاجته، بيسر وبما تستقيم به صحته وحيوته من طعام وشراب، ثم ألهمه يلبي حاجته من هذا الطعام ويكفيه، كما ألهم سبحانه هذا العلم، لسائر الكائنات الحيَّة، لكي تحافظ على حياتها وتستقيم به معيشتها وجعل للطفل حناناً في قلب أمه والحرص عليه، إذ لا تهدأ حتى تطمئن عليه من كل آفة.

كل هذا وأكثر منه يعطينا عبرة، عن رعاية الله وتوفيقه لهذا المخلوق بمعرفة ما يُبقي على نفسه في الحياة، غريزياً ومن دون تعليم سابق من أم أو أب، وهما وإن حرصا على تعليمه، فإن عقله لم يكتمل بعد، بما يهيئه للتعليم، فسبحان من قدّر فهدى، وعلّم الإنسان ما لم يعلم.. وهذا ما يوجب علينا الشكر والعرفان للخالق بالنعم التي لا تُحصى ولا تُعدّ.

يقول ابن القيم رحمه الله: ابن آدم إن الله إذا ابتلاك شكوت من يرحم إلى من لا يرحم، فشكوت ربك إلى العبد، فالعبد لا يرحم، وهو سبحانه أرحم الراحمين.

ابن آدم أما رأيت أن الله يغذو الجنين في بطن أمه من طريق واحد وهو حبل السرّة، فإذا وُلد الجنين، أخلفه الله بطريقين لبناً سائغاً من طريق ثديي أمه، عامين كاملين، فإذا انقطع الطريقان وجفّ اللبن أخلفه الله بأربعة طرق، طعامان وشرابان: الطعامان من الحيوان والنبات والشرابان اللبن والماء، فإذا توفي وانقطعت الطرق الأربعة، وكان من الصالحين، أخلفه الله طرقاً ثمانية: أبواب الجنة يدخل من أي باب شاء.

ابن آدم هكذا الله حكم عدل، لطيف رحيم، رؤوف ودود، فما ابتلاك إلا ليعافيك، وما أخذ منك إلا ليعطيك، وما أمرضك إلا ليشفيك، ويحك يا ابن آدم تشكو ربك، تشكو من يرحمك إلى من لا يرحمك. ا.هـ.

وابن القيم - رحمه الله-، هو ممن درس أحوال النفس البشرية، ضمن علماء الإسلام المستنيرين درسوا طباعها، وخبروا المؤثّرات فيها، وتفقهوها وطبّها، وخبروا المؤثّرات فيها، وما يفيد البدن وعلاجه وفي علاج الروح، وربطوا ذلك ببعض الأصول الطبية، التي تعلمها الإنسان، وأعانت علماء العصر الحاضر في بحوثهم، وفتحت أمامهم أبواباً مغلقة، حيث توصلوا إليها بتجاربهم، فكان في آرائه وطروحاته: طبيباً نفسياً، وطبيباً روحانياً.

فهو - رحمه الله- قد دخل في القواعد والعموميات، وربط ذلك بالعقيدة الإسلامية، وبالفطرة التي فطر الله الناس عليها، مما ينير الطريق إلى التبصّر في النفس، ويعبّد المسالك لتصل إلى فهم الأسرار التي أودعها الله فيها.

لقد جاءت دعوات في العصر الحاضر للأمهات، بالاعتماد على غذاء الطفل، بالمجفّف من حليب وخلافه، خلال العامين الأولين من عمره، وانساقت نساء الغرب، رغبة في الرشاقة، أو انصرافاً للعمل، لكن الدراسة الأخيرة، أثبتت خطأ هذا التقدير، بعد أن نمت في بعض الأطفال أمراض بسبب ذلك وتفشّت عندهم أمراض بسبب ذلك عديدة نفسية ونشأ في الأمهات أمراض لم تُعرف في من قبلهم.

وقد اتضح أن التغذية الطبيعية بحليب الأم، لا يعوّضه شيء لما فيه من مصالح للأم نفسها ثم للطفل، فتأثير حنان الأم في ضم الطفل لصدرها في الحولين الكاملين، اللذين جاء ذكرهما في القرآن الكريم له تأثير في عواطف الأم وأمومتها، وفي نفسية الطفل ومسيرته في الحياة، بعدما يكبر وأثر ذلك في سلوكه.

وآخر خبر قرأته علمي جاء في إحدى الصحف العلمية، عن اكتشاف قام به أحد أطباء المملكة العربية السعودية، جاء فيه أن لبن الأم يحتوي على أحد الأحماض الأمينية، والمعروف علمياً باسم (التّورين) بنسبة أعلى بكثير من الألبان الصناعية، وأن هذا الحامض مهم جداً لنمو خلايا المخ، وخلايا الشبكية في العين لدى الأطفال، وبخاصة حديثو الولادة.

كما تم مؤخراً اكتشاف عنصر الزنك في حليب الأم، والذي يعد مهماً جداً لنمو الأطفال، الذين يرضعون رضاعة طبيعية، كما يحتوي لبن الأم على مواد تساعد على امتصاص الزنك في الأمعاء.

فهذه الأشياء المكتشفة، وإن لم تكن هي النهاية في هذا الميدان، لم تأتِ صدفة في حليب الأم، ولكن الله أودعها فيه، لمصلحة تفيد الجسم وتقوّي بناءه.

وما سوف يكشف عنه الطب والعلم الحديث، بعد توفر الإمكانات وزيادة البحث العلمي والتحليل، ومع تطور الأجهزة الدقيقة، سيكون كثيراً جداً، حول هذا الجسم البشري، وما فيه من عجائب وغرائب، ذلك أن هذا الجسم عالم متكامل بجميع متطلباته ومكوناته.. وتأثير لبن الأم على صحة المولود، وسلامته من الأمراض في عاميه الأولين وما بعدهما من آثار، وأثر ذلك بقية عمره، نفسياً وخلقياً.

ولا يزال موطن البحث ضمن دقائق الأسرار التي اختص الله بها الجسم البشري، وما في ذلك من فوائد وحِكَم، لم تغفل عن ذلك حضارة اليونان والرومان، وهي أقدم الأزمنة التي رصدت الطب وتجاربه ثم كتب فيه العرب وأجادوا وتوسعوا في الأسرار الدفينة، مسترشدين بما جاء في القرآن الكريم وفي السنَّة المطهَّرة من توجيهات وعناية: كابن رَبَن الجزار وما في كتابه سياسة العبّيان، وأحمد بن يحيى البلديّ، في كتابه تدبير الحبالي والعبيان، وغيرهما.

ومن العجائب أن يكون لبن الأم في درجة ملائمة لرغبات الطفل صيفاً بالبرودة، وشتاء بالدفء، وأنه يتغيّر من وقت لآخر، حلاوة واعتدالاً، وتزداد المواد فيه بحسب احتياج الطفل أو تنقص، فسبحان من قدّر ذلك وهو القائل في محكم التنزيل: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} ويرتبط بذلك أحكام شرعية عند خلاف الزوجين.

mshuwaier@hotmail.com

 
مقالات أخرى للكاتب