Wednesday 30/10/2013 Issue 15007 الاربعاء 25 ذو الحجة 1434 العدد
د. عبدالله بن ثاني

د. عبدالله بن ثاني

إلى الأنبا أنطونيوس عزيز:

30-10-2013

لذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية أهل الذمة قبل أهل الملة..

أيها المسلمون: الأقباط واليهود أخوال المسلمين، فهم أهل أمنا مارية القبطية وصفية اليهودية رضي الله عنهما، فلا تشيطنوهم واستوصوا بهم خيراً، فقد روى الطبراني والحاكم عن كعب بن مالك مرفوعا: إذا فتحت مصر فاستوصوا بالقبط خيراً، فإن لهم ذمة ورحماً. وصححه الألباني.

نشرت جريدة الشرق الأوسط يوم الخميس 12 ذو الحجة 1434 هـ 17 أكتوبر 2013 العدد 12742 لقاء مطولاً مع الأنبا أنطونيوس عزيز ممثل كنسي في لجنة الدستور المصرية، ومن ذلك اللقاء قوله: “قال الأنبا عزيز “جرى الإصرار على الإبقاء على نص المادة الثانية كما هي دون تعديل أو تغيير، لأنها لم تغير شيئاً من مبادئ الشعب المصري وتتوافق مع مبادئ الكنيسة، فالأديان تدعو للمعروف وترفض المكروه والخطيئة والمعصية، ولكن بالتوافق مع القانون بما لا يفرق بين المواطنين فالقانون هو سيد الموقف. وتنص المادة الثانية في دستوري 1971و2012، على أن “الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع”...

فالحفاظ على إسلامية مصر من قبل هذا البطل الممثل الكنسي يصيبنا في الصميم من حرص بعض المسلمين على علمنة مصر وإلغاء هويتها الإسلامية وعروبتها، ولا أخفيكم مباشرة سيطر على ذاكرتي معلومات قديمة عن البابا يوحنا الثالث والعشرين، وذلك حينما أعلن الشيخ عبد المجيد الزنداني أن مخطوطات قمران قد تكون تسببت في موت بابا الفاتيكان يوحنا الثالث والعشرون1963م, عندما حاول الاعتراف والإعلان عن أن هذه المخطوطات قد بينت شخصية المسيح الحق كما يدين به المسلمون وأن دين الإسلام هو الدين الحق, والمسلمون هم الفرقة الناجية, وأن التبشير فيهم حرام، وحينها اعترض سفير إسرائيل لدى الفاتيكان على دعوة البابا, ثم ما لبثوا أن وجدوا البابا ميتاً على فراشه وتم إخفاء حقيقة المخطوطات.

النصارى المنصفون يفهمون الإسلام على حقيقته ويرون تحريم التبشير فيهم لأنهم أهل توحيد وعقيدة، ولذلك لا يجدون حرجاً من إنصافه إذا اقتضت الحاجة، وهم يدركون أن الإسلام كفل لهم العيش في كنفه بأمان حتى سماهم الإسلام أهل الذمة دليلاً على التشديد على الحرص على ضروراتهم الخمس وحرمة من يتجاوز عليهم أو ينتقصهم والمقصود بأنهم أهل ذمة هو كونهم تحت الحماية الإسلامية ومسئولية الدولة وأنهم في ذمة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. وفي ذلك روي عن رسول الله: (من آذى ذمياً فأنا خصمه، ومن كنت خصمه خصمته يوم القيامة) الخطيب الجامع 2-269، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها لتوجد من مسيرة أربعين عاما) أخرجه البخاري كتاب الجزية والموادعة، باب إثم من قتل معاهدا بغير جرم ح 3166. وألف المسلمون الكتب الكثيرة في أحكام أهل الذمة، وفرض عليهم الجزية كما فرض على المسلمين الزكاة مشاركة منهم في تنمية المجتمع ولا يشعرهم بالغربة في مجتمعهم، بل إنه أعفى من الجزية النِّساءَ والصبيانَ والمساكينَ والفقراء والرُّهبان وذوي العاهات من أهل الذمة، والأعجب أن الإسلام يسقطها عنهم إن لم تستطع الدولة حمايتهم أو توفير سبل العيش الكريم لهم فقد روي أن سيدنا عمر بن الخطاب حينما مرَّ بشيخ من أهل الذِّمّة، يسأل على أبواب الناس، فقال: “ما أنصفناك، إن كنا أخذنا منك الجزية في شَبابك، ثم ضيَّعْناك في كِبَرِك”. ثم أجرى عليه من بيت المال ما يُصلحه”. فإن كان الإسلام أسقطها عنهم حفاظاً على شعورهم وتحقيقا للعدل معهم فلا يسقط الزكاة عن المسلمين، ولذلك ملئت كتب الحضارة والتاريخ التي كتبها مؤرخوهم وعقلاؤهم ومفكروهم بشهاداتهم وتقريراتهم عن هذا الدين الخاتم للرسالات السماوية...

ومن المواقف التاريخية التي تؤكد احترام ولاة المسلمين وأئمتهم وعامتهم لتلك النصوص وعدم التغاضي وتقديم مصلحة إخوانهم في الإنسانية عنها موقف شيخ الإسلام ابن تيمية عندما فاوض المغول على أسرى من المدنيين قد أسروهم في هجماتهم على المدن في سوريا. وقد حاولوا تسليم الأسرى المسلمين فقط دون أهل الكتاب والاحتفاظ بهم كعبيد فقال لهم المفاوض أهل الذمة (يقصد أهل الكتاب) قبل أهل الملة (يقصد المسلمين) أي أنه يطلب تسليم المسيحيين واليهود قبل المسلمين. وذكر ابن كثير في “البداية والنهاية: عن الشعبي قال: وجد علي بن أبي طالب درعه عند رجل نصراني فأقبل إلى شريح يخاصمه. قال: فجاء علي حتى جلس جنب شريح، وقال: يا شريح هذا الدرع درعي ولم أبع ولم أهب. فقال شريح للنصراني: ما تقول فيما يقول أمير المؤمنين؟ فقال النصراني: ما الدرع إلا درعي وما أمير المؤمنين عندي بكاذب. فالتفت شريح إلى علي فقال: يا أمير المؤمنين هل من بينة؟ فضحك علي وقال: أصاب شريح ما لي بينة. فقضى بها شريح للنصراني. قال: فأخذه النصراني ومشى خطا ثم رجع فقال: أما أنا فأشهد أن هذه أحكام الأنبياء؛ أمير المؤمنين يدفعني إلى قاضيه يقضى عليه، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبـده ورسوله، الدرع والله درعك يا أمير المؤمنين اتبعت الجيش وأنت منطلق إلى صفين، فخرجت من بعيرك الأورق. فقال علي: أما إذ أسلمت فهي لك، وحمله على فرس، وأسلم النصراني. وذكر صاحب “فتوح البلدان” قال: خرج بجبل لبنان قوم شكوا عامل خراج بعلبك، فوجه صالح بن علي بن عبد الله بن عباس من قتل مقاتلتهم، وأقر من بقي منهم على دينهم، وردهم إلى قراهم وأجلى قوما من أهل لبنان، فحدثني القاسم بن سلام أن محمدا بن كثير حدثه أن الأوزاعي كتب إلى صالح رسالة طويلة حفظ منها: وقد كان من إجلاء أهل الذمة من جبل لبنان ممن لم يكن ممالئا لمن خرج على خروجه، ممن قتلت بعضهم، ورددت باقيهم إلى قراهم ما قد علمت، فكيف تؤخذ عامة بذنوب خاصة حتى يخرجوا من ديارهم وأموالهم؟ وحكم الله تعالى: أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) سورة النجم، وهو أحق ما وُقف عنده واقتدي به، وأحق الوصايا أن تحفظ وترعى وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه قال: “من ظلم معاهداً وكلفه فوق طاقته فأنا حجيجه”. وذكر البلاذري في “فتوح البلدان” قال: قال أبو عبيدة: لما استخلف عمر بن عبد العزيز وفد عليه قوم من أهل سمرقند، فرفعوا إلي: أن قتيبة بن مسلم دخل مدينتهم وأسكنها المسلمين على غدر، فكتب عمر إلى عامله يأمره أن ينصب لهم قاضياً ينظر فيما ذكروا، فإن قضى بإخراج المسلمين أخرجوا، فنصب لهم “جميع بن حاضر الباجي” القاضي فحكم بإخراج المسلمين على أن ينابذوهم على سواء، فكره أهل مدينة سمرقند الحرب، وأقروا المسلمين فأقاموا بين أظهرهم”. وما أكثر قصص أهل الإسلام.

هذه سماحة الإسلام مع أهل النصارى واليهود بالمجمل العام، وما ورد من نصوص في الفقه الإسلامي يفهم منها إهانتهم وضربهم وإلزامهم بما يميزهم فلها ظرفيتها التي قيلت فيه ولها خصوصيتها التي نجهل تفاصيلها ولا يمكن أن تعمم ولا أن تكون منهجا عاما لأنها تتعارض مع النصوص الصحيحة التي أمرت بالعدل واحترام الإنسانية، وأما ما نراه اليوم من إقصاء وحرب على الطوائف الإسلامية والمجموعات العرقية والغلو في العداء بعامة لكل البشر حتى أننا نسمع غلو بعض الخطباء في الدعاء على الأمم والديانات وبعض مكونات مجتمعاتنا الإسلامية بطريقة فيها إيذاء لمشاعرهم وتجعل بينهم وبين المجتمع حواجز تحرمهم من الهداية، والإسلام حينما ارتضى الجزية من أهل الكتاب لم يكن جابيا للمال ولامصاصا للدماء ولم يكن ساعيا لترسيخ امبراطوريات وممالك ولم يكن حريصا على جلب المزيد من الخراج والمساحات والعبيد والإماء، ولكن المحصلة النهائية من اختلاط هؤلاء المُخَيّرون بأهل السنة وأهل الإسلام وما يرونه من عدل ومساواة وإنصاف واحترام لآدميتهم سيقنعهم بهذا الدين وسيدخلونه أفواجاً وبقناعة دون ظلم وإكراه لأن هذه الملة الصافية لا تتعارض مع الفطر السليمة. فالأولى أن يراجع هؤلاء أسلوبهم مع الآخر كائنا من كان، فلعله سبب من أسباب الصد عن سبيل الله جل وعلا... والله من وراء القصد.

abnthani@hotmail.com

عميد الموهبة والإبداع والتميز البحثي بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية

مقالات أخرى للكاتب