Saturday 09/11/2013 Issue 15017 السبت 05 محرم 1435 العدد
09-11-2013

عن المشهد الإعلامي العربي الراهن

الأستاذ صباح ياسين واحد من المفكرين العرب الذين أعتز أيما اعتزاز بزمالتهم وله مساهمات متعددة في مجال الحقل الفكري العربي وبالأخص في مجال الإعلام العربي، وسأتوقف في هاته المقالة عن موضوع تطرق له في الدليل المغربي للإستراتيجية والعلاقات

الدولية لسنة 2013 وهو موضوع المشهد الإعلامي الذي يثير نمطا من الجدل الذي يصعب تحديد نهاية واضحة له، ولا يعود ذلك إلى ضعف الوسائل البحثية المنهجية في الاستدلال على تأثير المشهد الإعلامي في الواقع العربي الراهن، أو إلى تأطيره في حدود توضح معالمه الأساسية، ولكن إلى حيوية المشهد الإعلامي ذاته وسرعة المتغيرات في بنيته المادية والفكرية، والتحولات في أدواره الميدانية في إطار التحولات في المشهد السياسي العربي بشكل عام، فلم تعد الحدود واضحة المعالم والأبعاد بين ما هو سياسي وما هو إعلامي.... وعاد التأثير المتبادل للسمات المشتركة والواضحة الأبعاد عند قراءة المشهد الإعلامي العربي الموزع على خارطة العلاقات العربية - العربية والعربية - الدولية، يقود إلى التطلع إلى تلك الخارطة باعتبارها تشكل واقع تنازع المصالح العربية والإقليمية والدولية، وتعبر عن التطور التاريخي والسياسي الراهن، وبشكل خاص في زمن الربيع العربي.

والمشهد الإعلامي العربي الراهن يمكن اختصاره في نقطة النهاية التي وصل لها السباق الماراثوني لتطور ممكنات التواصل التقنية، إذ لم يعد الحديث عن الصحافة العربية ودورها كافيا للتعبير عن خطوط الطول والعرض التي تقطع المسارات السياسية والاجتماعية الراهنة في الحراك العربي والتحولات الجارية، كما أن الإذاعة هي الأخرى أضحت تشكل مرحلة ما يمكن تسميته بأنها تمثل بيئة وسيطة في سلم تطور الاهتمام الإنساني بالتواصل الفوري الإخباري والمعلوماتي، وكل الإبهار الذي ملكته الإذاعة حين انطلاقها قبل حوالي القرن من الزمن، استوعبته الصورة الفورية المبهرة المنقولة حول العالم عبر التلفزيون الفضائي، وأصبح الحديث عن الإذاعة ومكانتها في المشهد الإعلامي العربي الراهن يعد تفصيلا مرتبطا بتطور الإعلام الفضائي، ذلك الإعلام الذي استطاع تقنيا وحرفيا أن يحيط بالإعلام السمعي البصري من كل الجوانب، وأن يضم إلى حوزته تلك الإنجازات التواصلية وفي مقدمتها وسائط التواصل الاجتماعي عبر شبكة الانترنيت أو الهواتف النقالة وما تحمله من تغريدات وغيرها.

وليس من الصعب تتبع التحولات الجارية في تفاصيل العلاقات الداخلية للفاعلية الإعلامية العربية عموما في عصر البث الفضائي الذي أضحى هو السمة المميزة للإعلام العربي ودلالة قوته وضعفه في ذات الوقت، فالخارطة الإعلامية اليوم غيرها قبل أكثر من خمسين عاما، وما كان حلما في تمكين الأقطار العربية من الوصول بالإشارة التلفزيونية إلى الفضاء وتوزيعها إلى نطاق أوسع من البث الأرضي الأفقي قد تحقق بشكل أسرع وأكثر فاعلية مما كان متوقعا، إلا أن الشيء الذي غاب من ملامح هذه الفترة وتميزت به الحقبة السابقة هي الروح التعاونية العربية التي كانت تستند إلى المصالح العربية المشتركة والى الطموح في بناء صناعة إعلامية فضائية مشغولة بالبرامج الموجهة لأغراض التنمية أو التعليم أو بالإمكانيات التقنية للبث والتوزيع، وفي مقابل الحلم المشروع ببناء فضاء تواصلي عربي واحد في الغايات والأهداف يعبر بشكل وآخر عن طموح بناء وحدة قومية جامعة، استقر المركب العربي التواصلي على ساحل التناقضات والصراعات العربية في حقبة ليس لها مثيل في التأريخ العربي الحديث. ولم تعد تلك الجهود المبذولة من أجل وحدة الإعلام العربي في مواجهة التحديات سوى تراث يعاد تكراره في كتب الإعلام أو يتوافر في وثائق جامعة الدول العربية، أو اتحاد إذاعات الدول العربية وأنشطته المهنية، أو في الدراسات والبحوث التي تعدها الأمانة العامة لقطاع الإعلام والاتصال ضمن جامعة الدول العربية.

ولذلك فإن كل الخطوات التي أنجزت بجهود عربية مشتركة وبالعمل العربي المنظم على طريق تأسيس إعلام عربي يتمتع بالقدرة على توحيد المواقف وتوحيد الجهود والطاقات، أضحت في دائرة المجهول، بل عاد الإعلام العربي كما يكتب الزميل صباح ياسين يعيش في عصر “داحس والغبراء”، وانغمس في احتدام المعارك الداخليــة، وتخـــلى الإعلام العربي بكـــل وسائلــه عــن الأحلام القومية الكبرى التي شغلت الأجيال العربية في تحرير الأرض العربية المحتلة أو في تنمية الإنسان وتحرره وتقدمه وتطوره.

واليوم حين نتطلع نحو حجم المؤسسة الإعلامية العربية وبكل وسائلها من صحف وإذاعات وقنوات تلفزيونية، والمعززة بوسائل تواصلية أخرى مثل الانترنيت وغيرها، فإننا في الواقع نتمتع بانتصار حقيقي على طريق بناء ممكنات وأدوات التواصل الجماهيري المتنوعة والشديدة الإبهار والتأثير، ولكنه في الواقع نصر بطعم الهزيمة حين فقدنا تماما الإمكانات والأدوار الحقيقية التي يمكن أن تستثمر موحدة من أجل القضايا العربية المشتركة. فنحن في الوطن العربي نملك فضاء تواصليا شديد الازدحام ولكنه يسقط في مشكلة المرور الحر والسريع نحو الأهداف، وإن كان من الصعب وضع السنوات الأخيرة في إطار التقييم في حدود معالم المشهد الإعلامي العربي، إلا أنه يمكن الاستدلال على مؤشرات الواقع الإعلامي العربي عبر نموذجه وهو الإعلام التلفزيوني الفضائي العربي، وبالاقتراب من واقع وجود أكثر من 1500 قناة فضائية تلفزيونية عربية تبث من داخل الوطن العربي فقط، وتمثل تنوعات مختلفة الاتجاهات، وهويات شاملة وفرعية بين قنوات حكومية وأخرى خاصة تضم في طيفها تنوعات مذهبية وطائفية ومناطقية وغيرها. إلا أننا لحد الآن نبحث في وضع تشريعات منظمة للعلاقات الداخلية لذلك العدد الكبير من تلك المنابر الإعلامية الفضائية المتنوعة الأسماء والغايات والألوان الفكرية السياسية والاجتماعية، وتلك الجهود التي بدأتها إدارة قطاع الإعلام والاتصال في جامعة الدول العربية لم تصل لغاية الآن إلى أي نتائج محددة، وقد وضعت اللجنة العليا للتنسيق بين القنوات الفضائية العربية (جامعة الدول العربية - اتحاد إذاعات الدول العربية) موضوعة تنظيم البث الفضائي العربي والحاجة إلى تشريعات منظمة في هذا المجال في صلب جدول أعمالها. وتعكس تلك الجهود جانبا من القلق العربي من التطورات الحاصلة على مستوى التوسع الأفقي والعمودي في حجم فعالية الإنتاج البرامجي للقنوات التلفزيونية العربية، وما يحمله ذلك التوسع من مشكلات سياسية وفنية، أو من احتدام الصراع السياسي على الشاشات بشكل يوحي أن المعارك السياسية قد وجدت لها ميدانها الذي يكشف عن عجز النظام العربي من حل مشاكله بالحوار أو التفاهم.

ومن هنا فقد تحولت الكثير من وسائل الإعلام إلى أدوات للاحتراب داخل الأسرة العربية، هذا غير القنوات الفضائية التي اختارت لها هوية فرعية أو تفكيكية، تهدف إلى تغليب جبهة على أخرى، أو تدعو إلى خلق كيانات تحت مسميات الأقاليم أو الفدراليات داخل الدولة الواحدة، وأضحت الكثير من وسائل الإعلام وبشكل خاص القنوات التلفزيونية الفضائية مشغولة بتبني مواقف ومهاجمة مواقف أخــــرى، وتحولت حروب “القبائل العربية” إلى معارك باللغة والصورة من خلال قنوات فضائية ممولة ومنظمة لمواصلة التعرض والاقتحام، وأضحى المواطن العربي يرى صورة وطنه العربي مفككة ومتناحرة على الشاشة في أكثر من الذي يحدث يوميا على الواقع الميداني، وعاد العمل التلفزيوني يبتعد عن القضايا المركزية المتعلقة بالتوعية وتنمية الإنسان إلى إثارة النعرات والتحريض على الاقتتال، بل وحتى إلى تبني الفساد والدفاع عن الفاسدين وآثامهم.

مقالات أخرى للكاتب