Friday 22/11/2013 Issue 15030 الجمعة 18 محرم 1435 العدد
22-11-2013

(طه. مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى...)

أعتقد أن سبب البلاء في هذا الأمة هو أنها لا تدرك أن ثمة فرقًا شاسعًا بين المقدس وغير المقدس، ومن أمثلة ذلك الإسلام الدين الذي لا يأتيه الباطل والتاريخ الإسلامي، الذي هو تاريخ إنساني يخضع لمعايير بشرية ليكون موضوعيًا على الأقل والكارثة حينما يكون محلاً للاستدلال على النزاع الطائفي بين المسلمين اليوم، فواقعهم اليوم أشبه بصيدلية مملوءة بالمواد الأولية،

فدخلها مجموعة من المغامرين والفوضويين والجهلة وأصحاب الهوى والتعصب من إخباريين وقصاص، فهذا ركّب سمَّا ليقتل به أعداءه، والآخر ركّب من بعض المواد مادة مخدرة ليبيعها لمدمنين، وآخرون ركبّوا مواد أخرى لا نعرف كنهها إلى اليوم ولا تأثيراتها الجانبية، وتستحضر في كلِّ حفلة على أنها ثابت وغير متحوّل في حين أن المواد الموجودة في الصيدلية أصلاً هي مواد فيها من الطاقات ما يكفي لشفاء كل الأمراض شرط أن يتولّى تركيبها الصيدلي الأمين على مهنته والمتمكن من معلوماته والعارف بخصائص كل مادة لديه وعلاقتها بالمواد الأخرى، وعنده الفكرة الشمولية الواضحة لتفاعل كل مركّب مع المرض المخصص له مع مراعاة حالة كل مريض وعمره وجنسه وماذا لديه من أمراض في ملفه الطّبي...

هذا الصيدلي هو شخص اعتباري، لديه مجموعة من الكفاءات والعلوم والنوايا المراقبة بشفافية والموضوعة تحت الضوء العام دائمًا، فمن شاء أن يجرم وأن يلعن فليكن تجريمه لهؤلاء المغامرين الذين دخلوا وركّبوا سمومهم من دون علم وبنوايا ليست فوق الشبهات. وأما تلك الصيدلية وموادها وموازينها فليست مجرمة أبدًا وسيأتي من يحسن تركيبها لتكون كما صممت من أجله مصدر الدواء لكل أدواء الإنسان أفرادًا ومجتمعات؛ لأن الإسلام هو دين الحق والنور كشجرة باسقة خضراء لا تنبت إلا حيث الشمس والهواء المتحرِّك، ولا مكان لها في الكهوف الرطبة والمظلمة التي لا تنبت إلا الفطور والجراثيم، وهذا هو سرُّ الطاقة المتجدِّدة والكامنة والمستمرة في الإسلام الصالح لكل زمان ومكان، حيث العلم وحيث الحق وحيث المنطق وحيث المصلحة المرسلة التي لا يمكن أن تتعارض مع قوله تعالى: {طه. مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى...}، ولا يمكن أن يكون ذلك القرآن سببًا لشقاء أو تعاسة أو تأخر أو كراهية أو حقد أو وقوف في وجه الخير والحب والجمال والتقدم، فمن قرأ آياته وفهم منها غير ذلك فالآفة فيمن قرأ وليس فيما قرأ...

في التجارب الإنسانيَّة كُلَّما تراكمت القوانين وموادّها وتعديلاتها وتفسيراتها فتحت أبوابًا للفساد، وهذا ما جرى على الإسلام باختصار من تراكمات بشرية موضوعية وغير موضوعية في تفسير ثوابته ونصوصه وقواعده، وتلك التراكمات كانت تبحث مساحات تمارس فيها السلطة على النص المقدس، وإن لم تجدها اخترعتها مما أدَّى إلى أن أدخلت الناس في صراعات حول جزئيات من جزئيات في الشعائر والعبادات والمعاملات والعلاقات بالآخر، وصورتها على أنها محدّدات بين إسلام المرء وكفره، فكم سالت الدماء عبر التاريخ الإسلامي ولا تزال بسبب تلك الجزئيات وتلك المفاهيم والتفسيرات التي عدّوها ثابتة وهي متحوِّلة، فربما وقع قتلى في أحد مساجد مصر؛ لأن الإمام جهر بالبسملة مع الفاتحة، وربما منع زواج حنفي بحنبلية في بعض حواضر العالم الإسلامي، وكم وكم وكم، ولذلك مضت قرون على مساجد الأمة في تلك الحواضر يصلي أربعة أئمة في أربعة محاريب ونبيهم واحد وشريعتهم واحدة وكتابهم واحد، ولكن الآفة والقضية كانت بسبب المغامرين الذين دخلوا تلك الصيدلية فخلطوا للمسلمين سمومًا تحمل بذرة التدمير في داخلها، وكانوا مقدسين وغير قابلين للاستجواب ألبتة....

من يمعن الفكر وينعم النظر في واقع المسلمين اليوم يجد أن ترك النصوص الصحيحة والاستدلال بالتاريخ وما فيه من قصص مكذوبة وموضوعة ومحرفة تؤجج الصراع والتصنيف الذي عطّل مسيرة الأمة وغرس الطائفية التي ضربت أطنابها في الحالة الذهنية للناشئة وشرعن العنصرية التي فتكت بأستار المجتمع الذي تزداد رقعة خلافه حتَّى استعصى فيه التعايش على الناس، وأصبح المسلمون بين فكي حرب ضروس بعدما فقدوا العدل فيما بينهم، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “والله أمرنا ألا نقول إلا الحق، وألا نقول عليه إلا بعلم، وأمرنا بالعدل والقسط.. فلا يجوز لنا إذا قال يهودي أو نصراني - فضلاً عن الرافضي - قولاً فيه حق أن نتركه أو نردّه كلّّه.. بل لا نردّ إلا ما فيه من الباطل دون ما فيه من الحق”، بل إن الولاء والبراء دخل في نسيج المسلمين وأهل الملة، فاستباحت الفرق الدماء المعصومة، ونهبت الأموال وخربت الديار باسم الإسلام بعدما أغرتهم فتنة التصنيف وحرب المصطلحات، وأصبح المسلمون شيعًا يذيق بعضهم بأس بعض وليسوا طائفتين بغت إحداهما على الأخرى، غابت بيضة الإسلام واستبيحت هيبة الأمة وسقطت المرجعية وزهدوا في كلِّ نصوص التعايش التي أكَّدها الإسلام بصورة تحتلف عمَّا عليه الهدي النبوي في معاملته الناس اعتمادًا على تفسير مغامرين من أمثال قل عن ضل عن سبهلل، تجاهلوا الآخر تمامًا وحرموه من سبل العيش الكريم، وشيطنوا كل مخالف، علمًا أن الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم في وثيقة المدينة لم يتجاهل قبائل صغيرة من بني يهود، ولم يحرمهم المشاركة والحياة والشعور بأنّهم مكونٌ من مكونات المجتمع المدني آنذاك، علمًا أنها لم تكن معروفة، إِذْ نص على يهود بني عوف وبني الحارث وبني جشم وبني الأوس وغيرهم، وما أعدل شيخ الإسلام ابن تيمية حينما أقرّ معاملة الخلق بالحسنى في قوله: “والسعادة في معاملة الخلق أن تعاملهم لله.. فترجو الله فيهم، ولا ترجوهم في الله.. وتخافه فيهم، ولا تخافهم في الله.. وتحسن إليهم رجاء ثواب الله لا لمكافأتهم.. وتكف عن ظلمهم خوفًا من الله، لا منهم”. وأهل الملة أولى من غيرهم بهذه المعاملة حفاظًا على أواصر الإخوة الإسلاميَّة، وكذلك استحضار الرحمة في أهل البدعة ممن هم مكونٌ من مكونات الأمة الإسلاميَّة وأن تتم معاملتهم بعيدًا عن دهاليز السياسة وإملاءات التحزب والشيطنة، ونتيجة لغياب المنهج الصحيح في حياة المسلمين أعتقد أن هناك جورًا وغلوًاوتجاوزًا وإقصاءً في معاملة أهل البدع من أهل الإسلام معاملة سياسيَّة بما لا يَتّفق مع الشريعة السمحة ولا يضع البدعة وخطرها على التأثير في موضعها الحقيقي، يقول الشيخ الألباني -رحمه الله- في أحد فتاواه: “وسياسة الولاء والبراء لا تستلزم معاداة أيّ فئة من الفئات الإسلاميَّة.. ولكن يجب أن تعامل كل منها في حدود قربها أو بعدها من العقيدة الصحيحة، أو من التمسُّك بالإسلام الصحيح ككل.. والمعاداة لا تأتي إلا في حالة اليأس من صلاحها وهدايتها، فهنا يأتي ما هو معروف بالبغض في الله.. أما ابتداء فلا ينبغي للمسلم أن يعادي أحدًا من الطوائف الإسلاميَّة ولو كانت مخالفة لعقيدته”.

إن ذلك التعايش لا يعني إقرار البدعة بل يكون تغييرها عن طريق القول اللين والدعوة الصادقة والمخالطة بما لا يخرج عن العدل والإنصاف والإنسانيَّة، بعيدًا عن إطلاق المصطلحات على غير هدى، والحكم على أفعالهم وأجناسهم جميعًا بعدم الخيرية، فأين طلبة العلم اليوم والدعاة مما علمناه شيخ الإسلام ابن تيمية من هذا الأدب الراقي الذي يليق بأهل الإسلام الرحماء بمن حولهم من أهل الذمة وغيرهم من طوائف الإسلام حين امتدح جهود بعض المبتدعة في عصره فقال: “وقد ذهب كثيرٌ من مبتدعة المسلمين من الرافضة والجهمية وغيرهم إلى بلاد الكفار فأسلم على يديه خلقٌ كثيرٌ، وانتفعوا بذلك وصاروا مسلمين مبتدعين، وهو خير من أن يكونوا كفارًا “...

إن أهل السنَّة والجماعة، أهل الحديث والأثر - في كلِّ زمان ومكان - هم أعرف الناس بالحق، وأرحمهم بالخلق. وهم حقًا كما قال شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية في منهاج السنَّة (5-158): “نقاوة المسلمين، فهم خير الناس للناس”. فهم يعلمون الحق، ويرحمون الخلق، .. قال ابن تيمية -رحمه الله-: “وأئمة السنَّة والجماعة وأهل العلم والإيمان فيهم العلم والعدل والرحمة، فيعلمون الحق الذي يكونون به موافقين للسنَّة، سالمين من البدعة ويعدلون على من خرج منها ولو ظلمهم؛ كما قال تَعالَى: {كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى إلا تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أقرب لِلتَّقْوَى}، ويرحمون الخلق، فيريدون لهم الخير والهدى والعلم، لا يقصدون الشر لهم ابتداءً، بل إذا عاقبوهم، وبيَّنوا خطأهم وجهلهم وظلمهم، كان قصدهم بذلك بيان الحق ورحمة الخلق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يكون الدين كلّّه لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا”، بل إن أهل السنة أرحم بأهل البدعة من بعض فرقهم وطوائفهم؛ كما يقول ابن تيمية: “أهل السنَّة لكل طائفة من هؤلاء خير من بعضهم لبعض، بل هم للرافضة خير وأعدل من بعض الرافضة لبعضهم، وهذا مما يعترفون هم به، ويقولون: أنتم تنصفوننا ما لا ينصف بعضنا بعضًا”..

إن الخاسر الأكبر في كلِّ ما يمرُّ به العالم الإسلامي هم أهل الإسلام تحديدًا وبخاصة أن الخلاف قد اشتدّ عوده وأصبح عصيًا على الانحناء حتَّى تمضي العواصف وأمسى بعيدًا عن الالتقاء وكرة الثلج تكبر شيئًا فشيئًا، والقضية الكبرى أن النتيجة الحتمية لهذا الصراع هو ضعف الجميع دولاً وأفرادًا، وسيفرز الخلاف والاختلاف مجتمعًا منهكًا تمامًا، فلا الحكومات منتصرة ولا الطوائف مهزومة ولا التنظيمات والتحزب مسكوت عنها، والثابت في كلِّ هذا الواقع هو روح المتوالية ذات الجدلية وتكافؤ الأدلة المعتبرة أو المختلقة للتعصب والإمعان في التفريق والشتات، ويبقى التشويش معطلاً للمسيرة وشاغلاً عن أهدافها وبخاصة في القضايا المستساغة شرعًا... والله من وراء القصد.

abnthani@hotmail.com

عميد الموهبة والإبداع والتميز البحثي بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية

مقالات أخرى للكاتب