Sunday 24/11/2013 Issue 15032 الأحد 20 محرم 1435 العدد
24-11-2013

الحُبّ والحَبّ في (منفوحة)..؟!

- منفوحة.. وما أدراك ما منفوحة.. اسم برز على الساحة مؤخراً؛ بعد أن بدأت الحملات التصحيحية لنظام الإقامة والعمل، حتى طغى هذا الاسم على غيره من أسماء أحياء في مدن مثل جدة ومكة المكرمة؛ مرت بظروف مشابهة مع الجالية

الإثيوبية على وجه التحديد، وكأن هذه الجالية هي المنوط بها إثارة القلاقل وافتعال المشاكل من بين الجاليات الأخرى المقيمة في المملكة؛ في هذا الظرف الحساس.

- منفوحة.. هي اليوم حي من أحياء العاصمة الرياض، وكانت فيما مضى بلدة حضرية منذ آلاف السنين، واشتغل أهلها بالزراعة والتجارة. وتسمى أحياناً بمنفوحة الأعشى؛ نسبة إلى أشهر من سكنها في العصر الجاهلي، وهو الشاعر العربي المعروف بالأعشى، من شعراء المعلقات في سوق عكاظ.

- ماذا يعني اسم منفوحة..؟ جاء في معناها: النفح هو رائحة عبير الزهور والأشجار؛ إن هب عليه النسيم فحمله إلى ما حوله من بشر أو منازل. وكانت منفوحة ذات يوم؛ محاطةٌ بجنان النخيل والأعناب والتين والرمان، والنسيم ينفح بيوتها برائحة الشجر والزهر والأرض المروية.

- هذا الاسم الجميل لهذا الحي، وهذه البقعة المتصلة بالشعر والغزل من زمن الشعر: (ودِّع هريرة إن الركب مرتحل.... وهل تطيق وداعاً أيها الرجل)، لشاعرها الأعشى ميمون بن قيس، لم تخرج من دائرة الحب رغم كل الذي حدث، ولن تخرج مهما حدث، فالحب الذي وقعت هي في أسره من آلاف السنين، ما زال يسعدها مرات، ويشقيها مرات، فالحب ليس كله سعادة وهناء، وليس كله شقاء وعناء.

- قبل (الفوضى غير الخلاقة) التي ارتكبها سكان هذا الحي من الجالية الأثيوبية، كان هناك (حُبّ وحَبّ).. حُب بين هذه الجالية وبقية السكان من السعوديين وغير السعوديين، تمثل في التسامح والتعايش الذي ساد بين الكل عدة عقود، تولد عنه حُبّ للمكان الذي عاش فيه هؤلاء، وأكلوا وشربوا وأمنوا وربوا وعلموا أولادهم، وكذلك كان بين الكل حَبّ.. بمعنى مصالح متبادلة، ومنافع كثيرة، فأصحاب الأرض يؤجرون الدور والدكاكين، ويبيعون في المتاجر، والمقيمون يعملون ويكسبون ويجمعون الأموال.. وهكذا كان الحُبّ وكان الحَبّ في منفوحة..

- بعد الحملة التصحيحية في منفوحة، أصبحنا نقرأ (الحُبّ والحَبّ) بالمقلوب هكذا: (بَحْ)..! لم تعد هناك مصالح تجمع طرفي الحُبّ الذي كان في منفوحة.. أصبحت العلاقة بين (المتخلف والمخالف) على المحك، مع أن حُبّ منفوحة القديم عند (المتخلفين والمخالفين) هو السائد حتى هذه اللحظة، فالذين يدافعون عن أسرهم وعن أنفسهم ويحاولون حماية دورهم التي كانوا يؤجرونها لهذه الجالية فيما قبل، هم أهل الأرض التي يحبونها ولا شك أكثر من غيرهم، ويستميتون اليوم لدرء الخطر عنها مهما كلف الأمر، فهذا هو الحُبّ دون حَبّ هذه المرة..!

- والذين خرجوا بالسواطير والسكاكين يثيرون الفوضى في الشوارع، يدافعون عن حُبّ العيش في الظلام دون حسيب ولا رقيب، بعد أن فقدوا صلتهم بديارهم الأصلية وأهليهم هناك في أثيوبيا منذ سنوات طوال.

- الحُب يفعل العجائب يا سيدات ويا سادة، وهو ضرب من ضروب الجنون أحياناً، وللجنون فنون، ومن عجائبه وفنونه؛ أن الذين يجأرون اليوم طالبين النجدة من عبثية الأثيوبيين، هم الذين كانوا يتسترون عليهم بالأمس، ويعايشونهم في حي واحد، والذين يعتدون على المحلات التجارية، وعلى سيارات الناس في الشوارع، كانوا بالأمس يصلون مع جيرانهم في المساجد داخل الحي، ويتناولون معهم طعام الإفطار في رمضان، ويبيعون ويشترون ويسرحون ويمرحون معهم في سلام ووئام.

- إن من الحُبّ ما قتل.. وحُب (المتخلفين والمخالفين) في حي منفوحة للعيش في حي منفوحة بعيداً عن أعين الرقابة الرسمية، وبدون نظام إقامة ولا قانون عمل؛ هذا الحُبّ القاتل، نتج عنه وفيات وإصابات وضحايا وأضرار جسيمة، لم تقتصر على الطرف المتخلف، وإنما نالت كذلك الطرف المخالف.

- منفوحة موجودة في جدة؛ في غليل والسبيل والعزيزية وبني مالك والرويس ومشرفة وغيرها، وموجودة في مكة؛ في شارع المنصور وما حوله من أحياء، وفي أنحاء أخرى من العاصمة المقدسة، وموجودة في كل المدن، وحتى في قرانا التي نرى الأثيوبيين يسرحون ويمرحون فيها وهم يلوحون بالسواطير في أيديهم..!

- إذا لم نرشد هذا الحُبّ المفترض بين المواطنين والمقيمين، وبينهم وبين المكان الذي يعيشون فيه؛ بحرفية النظام الذي لا يتجاوزه أحد من ما كان ومهما كان، فإن حُبّ منفوحة بوجهيه: (حُبّ - بَحْ) سوف يتكرر معنا، وسوف نظل في دائرة الحُبّ القاتل؛ إلى أمد لا يعلمه إلا الله.

H.salmi@al-jazirah.com.sa

alsalmih@ymail.com

مقالات أخرى للكاتب