Wednesday 04/12/2013 Issue 15042 الاربعاء 30 محرم 1435 العدد
04-12-2013

ثانياً .. تلك الأيام يا للرعب ..! هل كانت صديقتي؟

حقيقة لا أعلم؛ لأنني بكل بساطة لم أكن وقتها أعي ماذا يعني صداقة، ولعلّي قلتها مجازاً مرة أو اثنتين. كل ما أعلمه أننا كنا ندرس في الفصل ذاته، ونتشارك المقعد الدراسي ذاته..

كان ذلك اليوم تعيساً بالنسبة لرفيقتي (ميم)؛ فقد كان لدينا في ذلك اليوم حصتان، الأولى للقرآن، والثالثة للمطالعة. لم تفلح الرفيقة بقراءة السورة القصيرة؛ فقد تعثرتْ كثيراً أثناء محاولة تلاوتها. ثم جاءت حصة المطالعة، وقد بلغ الدور في القراءة تلك المسكينة. بدأت تقرأ “سميرٌ ونبيه تلميذان مجتهدان، يلعبان وقت اللعب، ويدرسان وقت الدرس”. تبدو الصعوبة هنا في إتقان نطق المثنى وفي الاسمَيْن الغريبَيْن على سمعها..

كانت تتعثر بشدة، وتأكل بعض الحروف. بلغت المعلمة أشد حالات الغضب وهي تعيد لها الجملة مراراً، تصرخ فجأة، ترتجف (ميم)، وترفع رأسها للنظر في وجهها، فتصرخ مرة أخرى: لا تنظري في وجهي، انظري هنا (وتشير بأصبعها إلى الجملة في الكتاب). تكمل: ألا تفهمين؟ اقرئي. وبين صرخة وأخرى تستغفر، وتذكر الله، وتتنهد. دخلت جميع الطالبات في صمت مطبق ريثما تنتهي هذه العاصفة، وقد أصرت في تلك اللحظة على ألا تتركها حتى تقرأ جيداً. لم تكن تلجأ إلى الضرب كثيراً، لكنها تفعل ما هو أسوأ وأكثر إيلاماً!

أي قَدَر يا فوزية ذاك الذي جعلك تجاورين هذه الصغيرة البائسة! وفي حركة سريعة رأيتُ المعلمة تجعل أصبعها السبابة أشبه بنصف دائرة، وبمساعدة الإبهام تطبق على شفتها السفلى، تضغطها، تحركها يمنة ويسرة، ثم ترفعها قليلاً، ثم تصفعها على خدها. ربما كانت تلك الصفعة الأولى. كان المشهد مؤلماً جداً، ضاغطاً ومهيناً. في تلك اللحظة رأيتُ دموعاً صامتة على خدَّيْ رفيقتي، وقد صدر منها صوت بكاء منخفض، وأكثر من شهقة! يا للرعب..!

اقترب موعد نهاية الحصة؛ إذ موعد الفسحة. التفتت إليّ قائلة: انظري يا ابنتي، تأخذينها الآن وتخرجين أنت وهي هنا قريباً من الفصل، لا تذهبا أبعد من ذلك، لا تلعبا، ولا تتحركا هنا أو هناك؛ مهمتك تدريسها هذه الآيات. كان من المفترض أن أشعر بالزهو أن يتم تكليفي بمهمة التدريس وأنا في أوج عمر البراءة، لكنني لم أشعر بذلك الزهو؛ فقد طغى الخوف على المشاعر الأخرى كافة.

مشينا معاً. لم يكن يهمني في تلك اللحظة أن تُحسِن القراءة بقدر أن تراني المعلمة أنا وهي وقد نفذنا التعليمات بكل دقة، وأنها لن تنفجر غضباً في المرة القادمة.

ثمة أمر خطر في ذهني حين تجاوزت تلك المرحلة: كانت رفيقتي المغلوبة على أمرها تعاني حَوَلاً شديداً في عينَيْها؛ ولعل ذلك كان سبباً مؤثراً سلباً في إتقانها القراءة.

كانت تلك الحكاية شاهداً على سوء التربية والتعليم في بعض المواقع في مجتمعنا، الذي لا نزال نعاني بسببه حتى هذا اليوم.

مقالات أخرى للكاتب