Monday 06/01/2014 Issue 15075 الأثنين 05 ربيع الأول 1435 العدد
06-01-2014

لتلويح اللغة العربية بأردانها جاذبيَّته -2-

في الجزء الأول من الأسبوع الماضي من هذه المقالة كانت هناك إشارات إلى أمثلة من الأخطاء اللغوية التي يقع فيها بعض المذيعين والكُتَّاب؛ مثل استعمال كلمة «تواجد»؛ والمراد «وجود»، كما أشير إلى أهمية اللغة في حياة كُلِّ أُمَّة؛ ناهيك عن أن تكون هذه اللغة

هي لغة أُمَّتنا العربية، التي نزل بها القرآن الكريم من عند رَبِّ العالمين. وكان مما أشرت إليه، أيضاً، التقدير والثناء لما امتاز به المسؤولون في الجزائر وسوريا بالذات من جعل اللغة العربية تحتل المكانة الأولى في البلدين المذكورين.

وفي هذه الحلقة من المقالة أود أن أشير إلى أن المنادين بجعل اللغة الأجنبية مزاحمة للغة العربية في وطننا العزيز.. المملكة العربية السعودية.. قد ازدادت أصواتهم في الآونة الأخيرة.. وهذا أمر مؤسف.. على أن الأشد أسفاً هو أن المسؤولين، أو المتنفِّذين حقاًّ منهم، يصح أن ينطبق عليهم أنهم يقولون ما لا يفعلون.. فهم يقولون: إنهم يُشجِّعون اللغة العربية - بل ويُشجِّعونها أحياناً -، لكنهم يَتّخذون قرارات تتناقض مع تشجيعهم الذي يتظاهرون به.

ومما يُروَّج له الآن في بلادنا بالذات أن اللغة الإنجليزية هي لغة العلم وكأنها اللغة الوحيدة التي لا يتهيَّأ العلم إلا بها. وأصحاب الهوى لا يرون، أحياناً، ما يجري في العالم. في اليابان التدريس في كل مراحل التعليم باللغة اليابانية.. وفي كوريا، التي أصبحت بلداً عملاقاً من حيث التقدم العلمي والصناعي والاقتصادي، يمارس التعليم وتُجنى المعرفة وتُحقَّق المكاسب الإنتاجية باللغة الكورية الوطنية.. وفي فلسطين المُحتلَّة أحيا الصهاينة اللغة العبرية، التي كانت ميتة مئات السنين، وأصبحوا يستخدمونها في تَعلُّمهم وفي تعليمهم وسائر إنتاجهم العلمي.. وإذا أراد المرء أن يَتبيَّن له كيف ساءت نظرة مسؤولينا إلى اللغة العربية فسيرى من أَدلَّة ذلك - مثلاً - أن وزراء الصحة العرب سبق أن قَرَّروا قبل أكثر من عشرين عاماً أن يكون تدريس الطب والعلوم المتعلقة به باللغة العربية قبل بداية القرن الحادي والعشرين.. والآن غُيِّر التدريس في جامعة خليجية عربية من اللغة العربية في جميع المواد - باستثناء مادتين بقسم اللغة العربية - إلى الإنجليزية. وفي وطننا العزيز.. المملكة العربية السعودية.. سُمِح في المدارس غير الحكومية أن يكون التدريس باللغة الأجنبية؛ ابتداءً من السنة الأولى في المرحلة الابتدائية.

لا أدري إلى أين نحن مسوّقون مع تَيَّار السياسة المجانفة للتوفيق تجاه مستقبل أطفال وطننا العزيز! أرى بعض من لم يذهبوا إلى البلدان الغربية إلا بعد أن أنهوا تعليمهم العام؛ بل بعضهم لم يذهب إلى تلك البلدان إلا للدراسة العليا، وإذا أراد التحدُّث لا يستطيع، أحياناً، إكمال جملة من كلامه دون شفعها بكلمة أجنبية (وفي الأغلب إنجليزية). كيف سيكون وضع من بدأ الدراسة وهو يُدرَّس باللغة الإنجليزية منذ السنة الأولى في المرحلة الابتدائية؟

لقد برهن العلماء - وفي الطليعة من هم في اليونسكو - أن المرء يستوعب المعرفة إذا كانت مكتوبة بلغته الأم أكثر من استيعابه لها لو كانت بلغة أخرى.. وما يكون في مجال الاستيعاب يكون في التعبير.. ومن الأَدلَّة على ذلك أن المرء يستطيع - مثلاً - بيسر أن يترجم إلى لغته الأم من لغة أخرى كالإنجليزية، لكنه لن يمتلك ذلك اليسر إذا ترجم من لغته إلى لغة أخرى.

قُوَّة مصداقية المسؤولين أو ضعفها تَتَّضح من الإجراءات والمواقف التي يَتَّخذونها حقيقة. إذا رأيت المسؤول - مثلاً - يُشجِّع طفل مدرسة في حفل لأنه ألقى كلمة بالإنجليزية - مهما كانت ضعيفة، ولا يُشجِّع آخر إذا ألقى كلمة فصيحة بلغة صحيحة سليمة فإنه يمكنك أن تُشكِّك في مصداقية ذلك المسؤول. قُوَّة مصداقية المسؤولين أو ضعفها تَتَّضح من المواقف التي يَتَّخذونها عمليّاً. إذا رأيت مسؤولاً عن التعليم يسمح لسعوديين أن يلقوا بحوثاً باللغة الإنجليزية في لقاء علمي في الرياض، عاصمة المملكة العربية السعودية، أو رأيت اجتماعاً لمجلس إدارة يخص التعليم فَيتحدَّث أعضاء ذلك الاجتماع بالإنجليزية فإنه يمكنك أن تُشكِّك في مصداقيته.

وقُوَّة مصداقية المسؤولين أو ضعفها تَتَّضح، أيضاً، من موقف المسؤولين تجاه جعل إجادة اللغة الإنجليزية شرطاً للحصول على الوظيفة. أَليس ذلك الاشتراط تجاهلاً لشباب الوطن.. جيل المستقبل، الذي تزداد حاجة أبنائه وبناته إلى الكسب للعيش الكريم؟ وتزداد حاجة الوطن إلى عطائهم في مختلف وجوه الحياة للرُّقيِّ إلى المكانة المرجوة؟.

في جميع بلدان العالم يحتاج العامل الوافد للعمل فيها إلى معرفة لغتها، ويضطر إلى استعمالها. بل إن أكثر هذه البلدان يحتاج الذاهب لزيارتها؛ إنجازاً لمهمَّة، أو سياحة، إلى استخدام مترجم معه ليفهم لغة أهلها. أما أن يكون المواطن - كما هو واقع في كثير من دول مجلس التعاون الخليجي - هو المحتاج إلى معرفة اللغة الأجنبية في بلده وهو المضطر إلى استعمالها في تعامله مع الأجانب العاملين فيها، فأمر مؤسف كُلَّ الأسف غريب كُلَّ الغرابة.

وأَودُّ أن أختتم هذه المقالة بما يأتي:

تَعلُّم أيِّ لغة غير اللغة الأم أمر مفيد بِحَدِّ ذاته. وتزداد أَهمِّية الإنجليزية الآن لأنها أصبحت الشائعة جدّاً لدى الأوساط العلمية في العالم. لكن تَعلُّمها شيء وكون ذلك على حساب لغتنا العربية شيئاً آخر. كان المستعمر لبعض بلدان أُمَّتنا هو الذي يفرض أن تكون لغة التدريس هي لغة ذلك المستعمر. أما الآن فبعد استقلال تلك البلدان رسميّاً أصبح بعض المسؤولين عن التعليم لدينا هم المُتَحمِّسين لأن تكون لغة التدريس هي اللغة الأجنبية.

هدى الله الجميع إلى الرشد والسداد.

مقالات أخرى للكاتب