Wednesday 29/01/2014 Issue 15098 الاربعاء 28 ربيع الأول 1435 العدد
29-01-2014

اقرأ وفكر واستنتج

هذه قصة نهضة متميزة لشعب متخلف انتزعته قيادة وطنية حكيمة من القاع.

ما بين 1618 م و 1648 م نشبت في أوروبا حرب مذهبية طاحنة استمرت ثلاثين سنة، لذلك سميت حرب الثلاثين. قبل تلك الحرب كانت الممالك الأوروبية متصارعة على كل شيء، ومتصالحة فقط على المسمى الجمعي: المملكة الرومانية الإلهية المقدسة.

المتفق عليه بينها كان فقط على أنهم أتباع مملكة إلهية رومانية مسيحية مقدسة، وأن كل من هو وماهو خارج حيزهم الديني والجغرافي يعتبر وثنياً غير مقدس، لذلك يمكن استباحته ونهبه عندما تسمح الظروف.

في هذا الوسط الظلامي الجاهل والمتخلف كانت ألمانيا هي قمة التخلف والجهل والانحطاط.

حرب الثلاثين كانت مذهبية بين الفرعين الأهم للمسيحية، الكاثوليك والبروتستانت اللوثريين، يزايد كل مذهب منهما على الآخر بصلاحه وقربه من الله.

ارتكبت في تلك الحرب من الفظائع ما يذكرنا بما يجري اليوم في العالم الإسلامي.

خلال السنتين الأوليين من بداية حرب الثلاثين انفلتت الأمور من أيادي الحكام والقادة والقساوسة، لتستولي عليها مجموعات من رؤساء العصابات والمرتزقة.

من فظاعات تلك الحرب كان التهام أطفال الطرف الآخر بعد شيهم على النار وخوزقة الرؤوس على الأعمدة وقطع الأنوف والآذان لتعليقها كزينة على القبعات والأحزمة والأكتاف.

بعد ثلاثين سنة من الحرب لم يبق للجميع ما يتقاتلون من أجله.

لأنها لم تكن أصلاً حرباً من أجل الله، ركع الجميع لسلطة الخوف والجوع واضطروا إلى عقد حلف سلام، بضمان مشترك لحرية الرأي والمعتقد والتجارة البينية للجميع.

ذلك كان سلام وستفاليا الشهير في التاريخ الأوروبي، على اسم المقاطعة التي تم فيها الصلح.

لأن ألمانيا هي قلب أوروبا الجغرافي، حدثت أكثر المعارك وأشدها هولاً على الأرض الألمانية، وخسر الألمان ما يفوق خسائر الدول الأوروبية المتحاربة الأخرى مجتمعة.

في السنين الأخيرة قبل عقد الصلح أكل الألمان كل ما عثروا عليه، ومن ضمن ذلك الكلاب والقطط والجلود والعظام وجذور الأشجار وجثث القتلى.

لاحقاً ومن تلك البقعة الأكبر نكبة بالحرب المذهبية نشأت أعظم وأشمل نهضة فكرية وعلمية تجديدية في الغرب بكامله.

حقيقة إنهم كانوا الأكثر معاناة وخسائر جعل الألمان قبل غيرهم يدركون أن المستقبل معلق بشرطية المعرفة والانفتاح وليس بعقلية الانغلاق والتمذهب.

ربما كانت من محاسن الصدف أو ضربة حظ أن كان ملك المقاطعة الألمانية الأهم (بروسيا) الملك المثقف فريدريك ويلهلم الأب، ثم خلفه ابنه فريدريك الأكبر، كلاهما كانا مستنيرين محبين للعلوم والفلسفة والموسيقى.

على المستوى الرسمي كان الملك بروتستانتياً لوثرياً، وعلى المستوى الوطني لا يهمه على أي مذهب يتعبد المواطن، والمهم أن يكون ألمانياً بروسياً صالحاً.

من هذه العقلية انطلقت المرحلة التأسيسية لدولة بروسيا القوية، مرحلة الانصراف إلى العلوم والفلسفة والموسيقى والمهارات الحرفية والتخلي عن قياس الصلاح بالمظهر والتزلف الكنسي.

الملك الابن فريدريك الأكبر (هكذا يسميه الألمان حتى اليوم) أطلق المرحلة التأسيسية الثانية للنهضة الألمانية التي سميت حكومة التقاة أو النزهاء.

لاحظ الملك أن الفساد الإداري والأخلاقي الذي كان سائداً في الكنيسة الكاثوليكية ونشبت بسببه حرب الثلاثين، بدأ ينتشر ويتغلغل في الكنيسة والإدارة البروتستانتية الجديدة نفسها، وهي الحركة التصحيحية التي تزعمها القس مارتن لوثر لمحاربة فساد الكنيسة الكاثوليكية البابوبة.

أهم أعمال فريدريك الأكبر الإصلاحية كانت اختيار الرجال المسؤولين في الدواوين والثكنات والقساوسة في الكنائس، ليس على قياس التعبد الظاهري والمركز الاجتماعي وعدد الأتباع، وإنما بمقاييس الصلاح الشخصي والنزاهة الأخلاقية وأسلوب الحياة المتواضع والمترفع.

للحصول على النتائج المرتجاة أمر الملك فريدريك الأكبر بإنشاء ما عرف في أوروبا بمفهوم: إعادة بناء المواطن الألماني على أسس فكرية ومفاهيم حياتية جديدة.

كانت النتيجة خلال ثلاثين سنة نهضة ألمانية في كل المجالات وما لبثت أن التحقت بها كل المقاطعات الألمانية الأخرى، ثم توج ذلك بالتوحيد النهائي في دولة واحدة.

كان الألمان حتى نهايات حرب الثلاثين عاماً 1648م أكثر الشعوب الغربية تخلفاً وجهلاً وهمجية.

بعد مائة سنة من وفاة الملك المجدد فريدريك الأكبر سئل فيلسوف بريطاني عن العقلية الألمانية فكان جوابه: لا أعرف كيف أقول ذلك، لكن أوروبا الحديثة إن كان لديها سبعة فلاسفة عظام فستة منهم ألمان، وإن كان لديها سبعة موسيقيين كبار فستة منهم ألمان، ومن كل سبعة عباقرة في علوم المادة ستة ألمان.

العبرة من هذه التغريبة (حسب الرأي المتوقع لبعض القراء) هي:

أولاً: إن المذاهب وإن جمعت مؤقتاً فإنها في النهاية تفرق في متوالية عددية لا نهاية لها.

ثانياً: إن النهضة والتجديد عندما تتوفر الإرادة والإدارة الصالحة تولدان من رحم التخلف والاعتراف به.

ثالثاً: إن المذاهب والإيديولوجيات كلها عرضة لنفس ظواهر الفساد والانحلال عند احتكار الحقيقة والاستفراد بالسلطة.

رابعاً: إن الأسس في بناء الدول وبقائها هي المميزات الأخلاقية والكفاءة الشخصية، وليس التظاهر بالتقوى والتزلف، أو العصبية العائلية والقبلية والمناطقية.

الآن أعيدكم إلى عنوان المقال.

- الرياض

مقالات أخرى للكاتب