Friday 14/02/2014 Issue 15114 الجمعة 14 ربيع الثاني 1435 العدد
14-02-2014

مهرجان الجنادرية .. النافذة المفتوحة

في أيامنا هذه تزدان الرياض بفعاليات مهرجان الجنادرية الوطني للتراث والثقافة التاسع والعشرين. وقبل (29) عاماً افتتح الدورة الأولى للمهرجان رئيس الحرس الوطني ولي العهد آنذاك خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبد العزيز - حفظه الله - الذي أسس ورعى هذا المهرجان منذ ذلك الحين. ومسمى التراث والثقافة لم يكن مجرد عنوان لافتة للمهرجان، بل كان يحمل مفهوماً فكرياً مقصوداً لإيصال رسالة حضارية إلى المجتمع. ومن غير النائب المساعد لرئيس الحرس الوطني الأديب المثقف عبد العزيز بن عبد المحسن التويجري - رحمه الله - يقوم بترجمة توجيهات رئيس الحرس الوطني إلى رسالة حضارية.

في السنوات البكر من عمر المهرجان شعر كثير من الناس أنه قد دخل عليهم شيء جديد في بيئتهم الثقافية التي كانت ثقيلة الحركة ومنغلقة، يتحرك فيها الهواء في اتجاه دائري - كأي هواء لا يتجدد - إلى أن انفتحت هذه النافذة، التي هبت عبرها رياح حركت الهواء وجددته. تمثلت قوة هذه الرياح الجديدة في المزج بين التراث والثقافة.

على أن التراث في هذا المهرجان لا يسترجع فكر أو تاريخ أو آداب العصور الإسلامية الأولى أو الجاهلية، فربما يكون سوق عكاظ هو المكان الصحيح لذلك. لكن تراث المهرجان شيء آخر. إنه تذكير بما كان عليه آباؤنا وأجدادنا الأقربون من حياة بسيطة وموارد محدودة، ثم أوجدوا من هذه الموارد بعملهم وجهدهم الأدوات والوسائل التي يلبون بها مطالب الحياة، مزينة ببعض أدوات اللهو واللعب والزخرفة التي تلطف من خشونة البيئة. هذا التذكير عمل عاطفي بالنسبة لمن يشاهده من أهل البيئة المحلية، يدعوهم للشعور بمعايشتها لحظات معدودة. وقد يعجبهم بعض مبتكرات أهلهم الأولين فيرغبون في اقتنائها، وبعضها مثل الرحى أو الصميل يذكرهم بشقاء أمهاتهم وهن يحضرن الطحين أو اللبن ؛ ومثل السواني التي تذكرهم بتعب آبائهم أو أعمامهم الفلاحين: أو مثل الأهازيج وألوان الغناء الشعبي المختلفة. لكن هذا البعد العاطفي لا يخلو من بعد ثقافي. فالذي يتأمل أو يقتني الأدوات والآلات التراثية لا يفعل ذلك لمجرد أنها مصنعة أو مستخدمة من الآباء والأجداد، بل ينظر إليها من حيث قيمتها الجمالية، وهذا لون فني من ألوان الثقافة في المجتمعات الحديثة. ولا يختلف الأجانب من ناحية البعد الثقافي عن أهل البيئة المحلية. وليست كل الألوان التراثية بالطبع تحمل هذا البعد. فبعض الألعاب التراثية - مثل الكعابة والطجنة وعظيم سرا - تكون مسلية وجذابة أكثر، عندما يشارك بعض المتفرجين ويتسابقون للفوز بجائزة. على أن المهرجان لا يكتفي بعرض ما كان الأولون يفعلون، بل يعرض في صالات مخصصة للجهات الحكومية مراحل تطور خدمات الدولة وما كانت تلك الجهات تستخدمه في أول عهدها بالتأسيس من أدوات وأجهزة في أقدم طرازاتها، وما تستخدمه الآن من أحدث التقنيات. والمواطن الذي يشاهد هذا البون الشاسع بين قديم الطراز وحديثه يناله الإعجاب والرضا بما وصلنا إليه. لكنه لا يشغل نفسه بالسؤال: هل نحن وصلنا إليه، أم هو وصل إلينا حينما استوردناه جاهزاً معلباً، وأنه لكي نصل إليه ونقول إنه يخصنا فلا بد أن يكون من صنعنا ؛ تماماً مثل ما صنع أوائلنا الذين شاهدنا تراثهم في السوق الشعبي ما يحتاجون إليه.

إن الجانب الثقافي في التراث الشعبي لا يمثل إلا جزءاً من النشاط الثقافي المتنوع للمهرجان، أما الجانب الفكري فهو الجزء الآخر، غير أنه أوسع انتشاراً في البيئة الثقافية وأقوى تأثيراً. ولعلنا نتذكر أن المهرجان في سنينه العشر الأولى استضاف العديد من شخصيات الفكر والأدب والسياسة والحضارة والتاريخ والإعلام من خارج المملكة ممن كان بعضنا يقرأ لهم ويعجب بهم، فقربهم المهرجان إلى السعوديين، وقرب السعوديين إليهم، وحملوا معهم أفكاراً جديدة في الشؤون الثقافية، ربما اصطدمت بمسلمات فكرية سائدة في بيئتنا الثقافية آنذاك، حيث كان الاتجاه الفكري أحادي الجانب ومنغلقا بدرجة كبيرة، فجاء المهرجان كالمتنفس في أفق مسدود - لا سيما أن الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي لم تكن منتشرة في السنوات الأولى للمهرجان. وكانت تدور في الندوات والمحاورات التي ينظمها المهرجان مناقشات مفتوحة بين مختلف التيارات الفكرية، وأسهم الكثير من المفكرين والمثقفين السعوديين في إثرائها بطرح آرائهم التي تعبر عن توجهاتهم.

وعلى الرغم من انتشار الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي واتساع هامش حرية الرأي عن ذي قبل، فإن الندوات وغيرها من الأنشطة الفكرية في المهرجان لم تفقد رونقها، بل ازدادت الحاجة إليها للتغلب على فوضوية الفضائيات وسطحيتها، وافتقارها إلى المظهر التفاعلي بين المرسل والمتلقي، وكذلك للحاجة إلى تنوع وتجديد الأفكار والطروحات. ولأن جعبة الفكر العالمي لا تنضب فقد أبقت اللجنة المشرفة على المهرجان على هذه النافذة التي انفتحت قبل تسع وعشرين سنة.

وأختتم هنا بتساؤلين:

الأول هو عن مدى ضرورة أن تقام كل الندوات خارج الجنادرية، مع أنه قد تكون هناك أسباب وجيهة وعملية لذلك. وربما يجد المشرفون مستقبلاً وسيلة لإقامة بعضها داخل الجنادرية.

والثاني عن إمكانية تحقيق رغبة الكثيرين في تحويل جزء من أرض المهرجان غير مشغولة، أو قطعة أرض ملاصقة لها، إلى متنزه مزروع يكون به أماكن للاستراحة ومقاهٍ وممر يوصل إلى السوق الشعبي وتكون مفتوحة للجمهور في بعض أوقات السنة المعتدلة.

جزى الله راعي المهرجان والمشرفين عليه والمنظمين لفعالياته والمشاركين فيه أحسن الجزاء.

مقالات أخرى للكاتب