Saturday 15/02/2014 Issue 15115 السبت 15 ربيع الثاني 1435 العدد
15-02-2014

{وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ}

قال أبوعبدالرحمن: الجذر الثنائي في الذال المعجمة والكاف والراء مُؤثِّر في الدلالة، ولكن هذه الدلالة الجذرية قليلة في المستعمل من أحرف المادة؛ لأنها ومقلوبها ستُّ مواد هي: ذكر، وذرك، وكرذ، وكذر، وركذ، ورذك.. وليس فيها مستعمل غير (ذكر)؛ لأن الكاف المُـضَعَّفة مع الذال

المعجمة مُهملة المواد في لغة العرب سوى (الذَّكَذَكة) فهي بمعنى حياة القلب فيما نقله ابن الأعرابي؛ فيكون لنا فائدة من الجذر الثنائي، وهو اجتماع الذال والكاف على التوالي كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.. وأما رذك التي أُخذ منها معنى (الرَّوذكة) بمعنى الصغيرة من أولاد الغنم فهي تعريبُ (رودة).. وفي الجذر الثنائي من الراء والذال والكاف معنىً العُلُوِّ من (الذُّرْوَة).. ولو صح أن من هذه المادة مَدْحَ الإنسان والرَّفْعَ من شأنه من صيغه (ذَرَّيْتُه) كما قال رُؤبة:

عَمْداً أُذَرِّي حسبي أن يُشْتَما

بهذرِ هَذَّارٍ يَمُجُّ البلغما

لكان في ذالك لنا سعةُ دلالةٍ من هذا الجِذر، ولكنَّ اللغويين فهموا هذا الرجز على غير وجهه؛ لأن رُؤبة أراد أن يستر (حَسَبَه) من معنى (الذَّرا) بمعنى الكِنِّ؛ وذلك بمكارم الأخلاق حتى لا يُشْتَم، وأمَّا مدحُ الحسبِ والرَّفْعُ من شأنه فذالك بصيانتِه أن يَنْقُص عما هو عليه؛ وإذن فليس المدحُ ورفعُ الشأنِ من دلالة (ذَرَّيتُ)، ولا من لازم دلالته.. والجذر الثنائي من الراء والكاف إذا كان الثالث مُعْتَلَّاً فمنه تَذْكِيةُ النار بمعنى إتمامِ وقودها حتى ترتفع وتُضيئ، والذكاء فَسَّروه بسرعة الفِطْنة، وليس هذا بصحيح عندي؛ بل الذكاء مَلَكَةٌ من قُوى العقل تـَحْصُل بها معرفة ما وراء الظواهر من الخِداع، ويُسْتَلْمَحُ بها ما نَدَّ وغاب مِن مدارك الفكر (وهذان أمران محمودان)، ويُتَوسَّل بها إلى تغفيل الأذكياء ومخادعتهم؛ وذلك ذكاء مذموم.. فكل هذا ذكاءٌ سواء أحصل بسرعة فِطْنة أو بعد طول تفكير؛ وإذن فإن تذكية النار وذكاء العقلُ مُهِمَّان جداً في دَلالِة الجِذْر؛ ثم يأتي معنى الوضوح من (ذُكاءَ) غير المنصرفة، وابنُ ذُكاءَ الصُّبْح؛ لأنه من ضوء الشمس التي هي ذُكاءُ، ويُوصَفُ المِسْكُ بأنه ذكيٌّ، لسطوع رائحته.. وأما الجِذرُ الثنائيُّ مِن الكاف والذال إذا كان الحرف الثالث غير معتل فقد وردت مادة (الكذب) ومعانيه معروفة، ولا تستفيد مادة (ذكر) من جِذره إلا في معنى من معانيه المجازيَّة، وهو (الكَذَّابة) بمعنى ثوبٍ يُنقش، وقد يكون فيه تصاويرُ ثم يُلْزق بسقف البيت؛ ففي هذا وضوح وعُلُوٌّ؛ ولكنه لحدوثه بالمجاز أفاد من جذر (ذكر) لا العكس.. وجِذْر الكاف والذال مُهْمَلٌ فيما آخره ألف مهموزة، أو تاء مُثَنّاة، أو ثاء مُثلثة، أو جيم؛ فأما الكيذج بمعنى التراب فهو إبدال من مادة (كثج) بالثاء المثلثة.. وهكذا أهمل العرب (الكذج) بمعنى المأوى؛ لأنه مُعَرَّب.. وأمَّا ما كان آخره حاء مهملة فهو مهمل أيضاً، وأما وُرودُ (كَذَحَتْه الريحُ)؛ فذلك من إبدال الثاء المُثَلَّثة بالذال المعجمة من مادة (كثح)؛ لتقارب المخرجين.. وجاء الجذر فيما آخره ذال ثانية (الكَذَّانَة) بمعنى الحجارة الرخوة، ومِن اليقين عندي أن الذال المعجمة مبدلة من الثاء ذات النقط الثلاث؛ فتلك مادة أخرى هي الكثاكث والكِثْكِيث وهي الحِصْحِصْ من الحجارة كما قال رُؤبة:

مَلَأْتُ أفــواهَ الكلابِ اللُّـهَّثِ

مِن جَنْدلِ القُفِّ وتُرْبِ الكُثْكُثِ

وأصل المادة لهيئة من الكثافة دِقَّةً أو رخاوة كالشَّعَر والليِّف كما في قول عُبيد العَدَوي عن النخلة:

شَـتَتْ كَـثَّـةُ الأوبـارِ لا الـقُـرَّ تَتَّـقي

ولا الذِّئبَ تَـخْشَى وهْي في البلدِ المَقْصِيّْ

فاستعارَ وبر الإبل لليف النخل.. ولا تزال العامة في نجد تسمي الحجارة الصفراء الرخوة (كَثَّانة)، ولا يقولون: (كذَّانة).. وذكر ابن بَرِّي (الكُذَيْنِقَ) بمعنى مُدَقِّ القَصَّارين، وأورد قول الشاعر:

قامةُ القُصْعُلِ الضَّئيلِ وكَفٌّ

خِنْصَراها كذُيْنقا قَصَّارِ

نقل ذلك عنه ابن منظور في اللسان، والزبيدي في التاج، وفاتهما أن المادة مُعَرَّبة طارئة من الفارسية الفهلوية مُعَرَّبة من (كُدَيتِك) بالدال المهملة، وليست صيغتها بالدال المعجمة، والقاف من مخارج حروف العرب، ولا من الألفاظ المستعملة عندهم، والله سبحانه وتعالى ذكر الإناث بالتنكير والذكور بالتعريف في قوله سبحانه وتعالى: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ} [سورة الشورى/ 49]؛ لأن الأنثى لا تُعرف إلا بالانتساب إلى الذكر وقبيلته من الرجال صَلِيبَـةً، وأما انتساب عيسى عليه السلام إلى مريم فلأن الله خلقه كآدم من تراب، ونفخ فيه من روحه؛ فهو خارج بإعجاز الله عن سُنَّته في تناسل البشر، وكذلك الولد للفراش واللقيط خارجون عن القاعدة بالحكم الشرعي؛ ولهذا يُـخْترع للقيط اسماً له واسماً لأبيه من غير نسب إلى أُسرة؛ فيقال مثلاً (عبدالله بن محمد).. كما أن النسلَ يبدأ من صُلب الرجل؛ لأنه هو الذي يُلْقح بإذن الله.. والذكر بدون (ال) فيه معنى العَلَمية؛ لأن (ذَكَراً) بفتح الذال على وزن (فَعَلٍ) بمعنى (مذكور) في الأوصاف، والذكورة صفة في الأحياء؛ لأنها مثل نَغَضٍ وحسبٍ والحصبِ والشَّذبِ والشعثِ والنزحِ والخضدِ والزرد والعضد والمَـسد والنضد والقبس.. إلخ؛ فما كان على وزن (فَعَلٍ) فأكثره للأسماء، فإن كان وصفاً فأكثره لاسم المفعول.. وأما أن (ذَكَراً) بفتح الذال التي هي بمعنى المذكور فلأن فيه معنى الحضور والوضوح؛ فالذِكر بكسر الذال محفوظ في الذاكرة تستعيده، ويسبق إليه اللسان؛ ومنه سُمِّي ما يجري على اللسان ذِكراً.. كما أن الذكر نقيض النسيان؛ فالذِّكر حضور، والنسيان غيبٌ، وبُعْدِ الصيت ذِكر؛ لأن كلَّ ما يلزم المكلَّف حاضر فيه؛ لهذا جاءت الذكور في الآية الكريمة بالتعريف؛ لأنها إحالة حضورٍ وشهرة؛ ولأنهم المرجع في تمييز أنثى من أنثى، ولأنه تقدَّم الذكورَ بالتعريف إناثٌ بالتنكير، وهنَّ لا يُعْرفن إلا بالرجال أباً ونسباً مثل هي (من بني فلان)؛ فجاء التعريف للذكور اللذين يُعرف بهم (إناث) بالتذكير، والقُوَّة والشِّدة والقوامة من معاني الموصوف بالذكورة من الأحياء وليس من معاني الصفة، ثم امتدَّ الوصف مجازاً إلى غير الأحياء كَذَكَرِ الحديد، وما لا يَقْطع من السيوف ليس من ذَكَرِ الحديد، بل يقال: (سيف أَنِيث).. وجذور (أنث): أثن، ونثأ، ونأث، وثأن، وثنأ؛ فأما (نثأ) فالأصل فيها نَبْش اللَين من الحِسِّيَّات، أو السهل من المعنويات كنبش عيوب الناس، وقد ذكرها وأعملها الإمام الأزهري في تهذيب اللغة، وذكرها الفيروزآبادي في المعتل نَثِـيٍّ، وهو الصحيح؛ لأن (نَثِيـَّاً من (نثأ)، وكلاهما نبشٌ لأمر لين أو سهل لا يَؤُودُ نَشْره؛ فالنَّثِيُّ ما فرَّقَه رشاء الدلو من التراب اللين؛ لسهولة طرحه مع إبقاء الماء وحده، ولا تزال العامة في نجد تُسَمِّي تراب البُقْعة النَّديَّة (نِثى).. والثَّنْيُ ضمُّ جزءٍ من الشيئ إلى جزءٍ من غير كسر؛ وما ذلك إلا لليونته.. وأما الأثَنُ فهو القطعة من شيء سهل لا يُـحْوجُ إلى آلة كالقبضة من شجر الطلح والأثل، وهكذا منبت الطلح على عِظم الطلع من أخشابه لا يحتاج إلى عناية من البشر، وينبت في لَيان الأرض.. وأما ثأن فالأصل فيها السير البطيئ الذي يُبْطئ على المُـنتظِر، وأكثر ما يكون ذلك عن ضعف وليونة.. وأما مادة (أنث) فالأصل فيها اللين والسهولة، ومعناها ومعاني جذرها من صفة الموصوف بالأنثى في الأحياء؛ ولهذا قالوا في المبالغة (الأنيث) بمعنى اللين، وقالوا في المجاز: (تأنَّثْتُ له في الأمر) إذا لان فيه.. واللين صفة في الموصوف الذي هو الأنثى، كما أن الشدة و القوة صفة في الذكور.

قال أبوعبدالرحمن: الشكوى إلى الله فأنا بين لغة العرب، وبين سياق كلام الله، وبين الواقع المشهود من حال الذكر والأنثى؛ فأرجو من الجنس اللطيف أن لا يغضب عليَّ، وأن يرضين بقسمة الله في قضائه الكوني والشرعي، وأن لا يُفَرِّطن في نونِ النسوة؛ فَرِقَّتهنَّ جمال للكون، وخشونة الرجال جمالٌ لَهُنَّ؛ فالحمد لله الذي أخرجنا من أرحامهنَّ هانئين بحنان المهد ودِفئه، ثم أَسَرْنَ قلوبَنا بجاذبيَّتِهنَّ؛ وقوَّى الشرع عزيمتنا على الصبر والثبات والظفر بذات الدين والرضا بتموسِّطة الجمال.. تَرِبتْ يدا من أبى ذلك؛ لهذا جاءت (إناث) ابتداءً مُعاكسةً لأخلاق الجاهليِّ الذي يَسْوَدُّ وجهه وهو كظيم إذا بُشِّر بالأنثى؛ لأن المشيئة مشيئةُ الله، والخِيرة فيما اختاره؛ و لهذا قَدَّمَ الله سبحانه لغلبة مشيئته بقوله: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [سورة الشورى/ 49].. وجاءت (إناث) بالتنكير؛ لأنها لا تتميَّز وتُعْرَف إلا بالذكور الذين سيأتي ذِكْرهم مباشرة بالتعريف، ثم جاء الذُّكران ابتداءً بلا تعريف، وإناثاً بعدهم بلا تعريف؛ لأن الذكور سبق تعريفهم، ولأن الإناث لا يتعرَّفن إلا بالذكور.. وقدَّم الرجال؛ لأنهم أهل القوامة كما قال تعالى واعظاً الجنس اللطيف: {وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [سورة النساء/ 32]، ثم قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} [سورة النساء/ 34]؛ فعاد الخير في النهاية إلى الجنس اللطيف؛ لأن قَوَامة الرجل تشريف وتكليف معاً؛ فهو المكلَّف بأعباء الحياة لا يُرهق الأنثى بكسب لقمة العيش، وهو المخاطَب أوَّلاً بالمرحمة وحُسْن العشرة والصبر، ولا يبدأ بعقوبةِ مسيئةِ العِشْرة بالضرب والشتم قبل الحلول الأُخرى إلا بهيمٌ لئيم، ورحم الله الأنصار وضي عنهم (وهم أسود النهار، رهبان الليل) تَغْلِبُهم النساء بالعِوج، ويغلبوهن بالصبر؛ فكيف لي أن أستمتع بوردتي أثناء الليل وقد فَرَكتها أول النهار؟!.. وهكذا ضَرْبُ البُنيَّة والأخت من أقبح النذالة، ولتربيتهنَّ مراحل شاسعة قبل ذلك.. والله اختار للوردة أن تكون في كِنِّ ولباسِ زوجٍ كريمٍ يرأفُ بها، ويحميها، ويغار عليها، ويكدح من أجلها (وخيركم خيركم لأهله)؛ فإذا ذَبُلَتْ أصبحتْ سَيِّدةً مُطاعةً مبرورةً من الأبناء والحَفَدَة إلى أبعد رجل أو أنثى في الأسرة.. ولم يرضَ لها أن تكون سلعة تُباع وتُشترى؛ فإذا ذَبُلَتْ رُمِيَتْ في النُّفاية.. ولهن حقوق من البِرِّ منذ الولد إلى أقصى رجل في الأسرة فوق ما يناله الأرْمَلُ الذكر، فوابَخْتَ الجنس اللطيف بما طوَّقهن ربُّهنَّ به من القوامة والمرحمةِ واصطياد القلوب؛ فاشكرن الله على ذلك ولا تكفرنه؛ فإن لأمَّهاتنا كحقِّ الأب وضِعْفيه، ولبنياتنا مرحمة ومودَّة في قلوبنا أكثر من الذكر مشقوق العباءة، وإلى لقاء قريب إن شاء الله، والله المستعان.

- عفا الله عنه -

مقالات أخرى للكاتب