Monday 24/02/2014 Issue 15124 الأثنين 24 ربيع الثاني 1435 العدد
24-02-2014

الابتعاث خير.. لمن سعى في دربه خيراً!

عدتُ إلى بلادي من بعثتي الجامعية في الولايات المتحدة الأمريكية قبل نحو أربعين عاماً تقريباً، ورغم ذلك، ما برحت تداعيات تلك المرحلة المفصلية في حياتي بمعظم أجزائها (سيمفونية) تغرد في ذاكرتي، لا أبتغي عنها حولاً!

* * *

والسبب في ذلك أن المدة التي أمضيتها في مدينة لوس انجلوس دارساً عبر مرحلتيْ (البكالوريوس والماجستير) منحتني فرصة (إعادة) اكتشاف نفسي لأعيش من خلال ذلك تجربة ميلاد جديد، مقروناً بالإيمان بالله ثم بالعزم على تسخير وقتي وقدراتي خدمة للغاية النبيلة التي أوفدت من أجلها إلى تلك الديار البعيدة، حتى منّ الله عليّ بالنجاح!

* * *

وهنا، أجرؤ على القول بأن لتجربة الدراسة الجامعية في أمريكا تحديداً مساحةً أثيرةً في نفسي لا تغرب عنها شمس الذاكرة، ولا يُغادرُها قمرُ الحنين، مضيفاً أن الذين أمّوا تلك الديار البعيدة من أبناء هذه البلاد لغرض الدراسة عَبْر العقُود الأربعة الأخيرة من القرن الماضي عادوا منها أصنافاً من البشر:

منهم من أفلح فلاحاً تخَطىّ به الصعابَ نحو العُلا.

ومنهم من تردَّى حظُّه ولازمَتْه تبعاتُ ذلك في الغربة وبعد العودة إلى الوطن.

ومنهم من عاد بذاكرة (معلّبة) تضمّ معلوماتٍ وانطباعاتٍ سرعان ما جارتْ عليها (بكتريا) الزمن.. فغابت بلا أثر ولا تأثير!

* * *

وبعبارة أكثر دقةً، من المبتعثين من لم تتجاوز به تجربتُه في العالم الجديد جدرانَ مأواه، والدربَ الذي يسلكه إلى جامعته وقاعةَ الدرس التي تُحقن فيها ذاكرتُه بما حوته الكتُبُ المقررة، وهو يتلقى كل ذلك بصمَت المستسلم.. بلا سؤال ولا تساؤل ولااعتراض، فنال من العلم واللغة حداً أدنئ أحرز به شهادةً ما.. ثم عاد إلى الوطن (عذريَّ) الذهن والوجدان، وسرعان ما ادركتْه عواملُ التعرية الزمنية والاجتماعية والأسرية لتطمسَ الكثير من معالم شخصيته قولاً وعملاً، فلا يبقَى منها سوى (أطلال) تذكِّر به فحسب!

* * *

وهناك مبتعثٌ آخر فَقَد توازنَه في العالم الجديد منذ اللحظة الأولى انبهاراً بما استقبلته حواسُّه الخمسُ، فمنح الدراسة من نفسه حدّاً أدنى: وقتاً واهتماماً وجهداً، وراح يَتعاملُ بـ(بوهيمية) ظاهرة أو مستترة مع المواقف والأشخاص بهدفٍ حيناً.. وبلا وعي أحياناً، وقد يصاحب ذلك تعثُّرٌ في الدراسة، فيقفز إلى هذه الكلية أو تلك، مستفيداً من (مرونة) التعليم الجامعي في أمريكا، ثم يفوزُ في النهاية بشهادةٍ ما قبل أن يحزمَ حقائبَه عائداً إلى وطنه مشْدُوهاً بما رأى وسمع وذاق من لذات الحس، وبرصيد متواضع من اللغة والفهم والاستيعاب لمفردات الحياة هناك وعياً واستنتاجاً، وقد تقترن عودتُه إلى الوطن بـ(حواء) شقراء أو سمراء، تلخّص حصَادَ (ركضه الاجتماعي) في ديار الغربة، وليَضَعَ أهلَه ورفاقَه.. و(فتاةً من الوطن) ربما كانت تترقَبُ عودتَه.. أمام حتمية (الأمر الواقع)!

* * *

وهناك صنف ثالث من المبتعثين منحه الله نعمة التوازن عقلاً وبصيرةً ووجداناً، فلم يفرِّطْ في واجبات المهمة الشريفة التي شدّ الرحال من أجلها، وكان التفوقُ الدراسيُّ همَّه وغايتَه، ولم ينسَ في الوقت ذاته نصيبَه من زاد الثقافة ومتعة الخاطر البريئة، وعاش تجربةً سويةً مع مصادر الإشباع لهذا وذاك، متيحاً لنفسه فرصةَ (التعلُّم) بمفهوم أرحب وأغْنَى، وامتصاصَ المفيدِ من مخرجات الثقافة المحلية دون أن تهتز في نفسه هُوية الولاء لثوابته وقِيَمه وجذُوره، أو تتعثَّرَ في عزمه آلية الإصرار على إنجاز مهمته، فَفازَ بالنّعيميْن : تفوّقٌ في الدراسة مكّنه من بلوغ المراد، وحصَادٌ من المعرفة والثقافة والخبرة منحته شفافيةً وانفتاحاً حيال نفسه ومن حوله.

* * *

وبعد، فتأكيداً لمغزى عنوان هذا الحديث أقول باختصار: من عاد من أرض الغربة مبتعثاً سالم العقل والنيّةِ والوجدان، مشبع الذهن بما يفيد من علوم الأرض والإنسان، فأولئك هم الفائزون حقاً، أما الذين سلكوا الدربَ نفسه، ثم عادوا إلى وطنهم كما بدأوا أول مرة بلا علم ولا خبرة ولا بصيرة، فليسَ لهم سوى العزاء والدعاء!

مقالات أخرى للكاتب