Wednesday 26/02/2014 Issue 15126 الاربعاء 26 ربيع الثاني 1435 العدد
26-02-2014

نحت الكلام

كان حسان بن ثابت يقول قصيدته في يوم وينحت فيها بقية العام فسمِّيت قصائده بالحوليات.. وكان آخرون يشتهرون بقول الشعر تلقائياً وعرفوا بمسمّى شعراء الرد.. أي الذين ينسجون بيت الشعر فوراً كإجابة لبيت قاله شاعر رد آخر.

هناك من يكتب المقالة ويصححها وينقحها قبل نشرها أو إرسالها.. وهناك من لا يستطيع أن يعيد قراءة ما كتب.. وهناك خطيب مفوه تهتز له المنابر يلقي خطبته من صدره بمَلَكَةٍ تأسر المستمعين وتهز وجدانهم.. وهناك خطيب يلقي خطبته من نَصٍّ مكتوب مدروس تعاون على صياغته فريق عمل.

التاريخ الواقع يقول إنّ حوليات حسان بقيت وقصائد شعراء الرد نُسيت.. والحياة تثبت أنّ من يكتب لنا أو يخطب فينا إن كان قد كتب ما كتبه وحرص على تنقيحه فهو يحترمنا.. ما عدا ذلك فهو يلقي فينا غثاءه.

نحت النص مهمة إبداعية شاقة تدل على اهتمام.. الاهتمام بالنفس فلا يخرج منها إلا كل كلام موزون مفهوم معتبر.. واهتمام بالمتلقي فهو يحترمه فلا يلقي له بغثائه ولا يمد رجليه أمامه بل يوقره ويرى فيه حَكَماً على ما أمامه؟.

يقول الجاحظ واصفاً مؤلف الكتاب وقارئه: (عقل المنشئ «أي الكاتب» مشغول وعقل المتصفح «القارئ» فارغ).. ويقصد به متفرّغ للنقد.. ويقول أيضاً: (إنه ينبغي لمن كتب كتاباً ألاّ يكتبه إلاّ على أنّ الناس كلهم له أعداء.. وكلهم عالم بالأمور.. وكلهم متفرغ له)!.. كل تلك النصائح من جدنا الكاتب العبقري يقصد بها الحرص على ألا يخرج من جعبة الكاتب للناس إلا كل ما هو نافع وصحيح.. وهي غاية نبيلة لكن هذه الغاية يمكن أن تتحول إلى عنصر إعاقة إذا بولغ في تطبيقها.. فنُحْرَم من إنتاج مفيد ومهم نتيجة الحرص الشديد والخوف من النقص.. فلا يوجد كتاب كامل لا يعتريه النقص في أي لغة سوى القرآن الكريم.. وليس أدل على ذلك من مقولة العماد الأصفهاني الشهيرة: «ما كتب أحد كتاباً في يومه إلا قال في غده: لو غُيّر هذا لكان أحسن: ولو زيد هذا لكان يستحسن، ولو قُدِّم هذا لكان أفضل، ولو تُرك هذا لكان أجمل، وهذا دليل على استيلاء النقص على جملة البشر».

مقالات أخرى للكاتب