Friday 28/03/2014 Issue 15156 الجمعة 27 جمادى الأول 1435 العدد
28-03-2014

التقاعد والكرْسي والنظرة السوداوية

نظرة سوداوية الجميع أشاحوا بوجوههم. الجميع لمْ يعودوا يبادلونني الابتسامة الجميع أشعروني إنني عبء.. الجميع ينظرون إليّ نظرة استياء.. الجميع يسألونني متى موعد التقاعد؟ الجميع لم يعودوا يهتموا بأمري. الجميع لم يعودوا يهتموا بنفسيتي. عندما تسقط أوراق الخريف تتطاير تتلاشي وتبعثرها الرياح. شعرت بخيبة أمل واشمئزاز ساعة الرحيل ليس الرحيل عن الكرسي لكن الرحيل عن أناس لمْ يقدروا سنوات من التعايش والزمالة. الناس يحبون حب المصلحة ومصلحتهم والصلاحية تنتهي حين تنتهي المصلحة. شعرت بالتوتر ومرارة الحلق وضيق في الصدر حين وجدت نفسي وحيداً بعد مغادرتي الفعلية للكرسي تطاير الناس من حولي تطايروا كما تتطاير عصافير شجرة السدر حين تهزها.

لمْ تعد المشاعر الإنسانية تلعب دوراً في حياتنا الناس يتسابقون يهتفون ويتهافتون على من يمد لهم يد المساعدة أما سوى ذلك لا يكترثون أو يهتمون. خريف العمر على الأبواب وأمراض العصر تنتظر الدخول وكرسي الوظيفة جلس عليه إنسان آخر أمور لا نملك القوة لمنعها مهما حاولنا، ما يضايقني أولئك الأشخاص المنافقون الذين ولوا أدبارهم وفروا للأبد، كم هو مؤسف أنْ تتعشم الخير فيمن لا خير فيه، على مر السنين تتجمد العلاقات لكنها سرعان ما تعود لطبيعتها حين يدخل الدفء القلب وتعود ذكريات الصبا مرة أخرى. نكبر نهرم لكننا نملك قلوباً بيضاء قد يعلوها بعض الأتربة لكنها تعود لطبيعتها. الناس تتلون حسب مصالحها فهي تُهلل تُلمّع وتبني قصور في الهواء عكس ما تخفيه في دواخلها، أولئك الموظفون المنافقون اختفوا كما تختفي الفئران حين يهاجمها القط. لمْ يعد للعلاقات الاجتماعية أهمية مقابل المصلحة الشخصية فالناس يرقصون على جراح الآخرين حين ينتهي بهم المطاف ويعتبرون من تخلّي عن الكرسي أو من أُخلي لا حياة له ولا هدف يسعى إليه.

حين كنتُ أجلس على كرسي الوظيفة عرفتْ معني النفاق. التقرب الكلمات الرنانة. البحث عن أخطاء الآخرين.. تقديم الخدمات. تسهيل المهام كيف الموظفين يتلونون حسب حاجاتهم. وقفت أمام السيل وهذا التملق بقوة لكنني لا أستطيع أنْ أغير الحال بمفردي.

الكرسي للأسف في معظم الحالات يجعلك إنسان مهم ومحبوب وسرعان ما تكشف ذلك حين ينتهي بك المطاف خارج حدود الكرسي فترى الناس ومن حولك على وضعك الطبيعي وأهميتك. الناس عادة لا تكشف عن وجوههم الحقيقة إلا حين تنتهي المنفعة لتري الوجوه القبيحة المزيفة. لمْ أندم على الكرسي لكني ندمت كثيراً وتألمت أكثر من زملاء حين غردوا في سرب آخر، لمْ أندم على الكرسي لكنني ندمت حين سقطت الأقنعة من تلك الوجوه التي حسبتها جميلة. المواجهة خيار لمْ يكن خياري لكنني اخترته مواجهه البعد عن الكرسي والسلطة وليس التسلط مواجهه تخلي الناس تخلي الزملاء تخلي من كنت أتوخي الحب والعلاقة السرمدية معه. بعد أن هدأ الوضع وقبلتْ الوضع الجديد تلفتْ من حولي عن أبحث عن عالم آخر عالم جديد يجدد حياتي ويخفف وطأة صدمة من ابتعدوا عني حين أبتعد كرسي الوظيفة وتركوني وحيداً لمْ أجد سوي شاطئ الأمان الذي شرح صدري وقلدني وسام الصبر الذي يمنح لمن وجد نفسه وحيداً بعد أنْ تخلوا عنه من حوله حين غادر كرسي الوظيفة.

تغلّبتْ على عقدة الندم على من يحملون في قلوبهم العلاقات الإنسانية الخالية من المصلحة الشخصية.. شاطئ الأمان يبعث في النفس الراحة ويجعلك تنسجم وتتناغم مع واقعك الجديد بعيداً عن تقلبات الأمزجة والركض وراء العواطف والتخلي عن القيم الإنسانية.

الكرسي يتغير لكن صاحب الكرسي الذي يعرف مسبقاً أن الكرسي لا يدوم فيجعل كل من حوله سعداء بلطفه ومعاملة الإنسانية، لا يعرف الإنسان متى يتخلى عن المنصب بإرادته أو يتخلى حسب النظام أو يهوي للقاع رغماً عن أنفه. حسب النظام تخليت عن المنصب وحسب المصلحة الشخصية تخلوا كل من كانوا حولي هذا هو الواقع الذي نعيشه اليوم في عصر الأنا. تمزق قلبي حسرة ليس على وضعي فحسب بل على الوضع الإنساني الذي وصل الإنسان في هذا العصر الذي ينظر للآخرين من منظار المصلحة المطلقة الخالية من العواطف والقيم، تمزّق قلبي حين وجدتُ نفسي أطير خارج السرب بعيداً عن تلك الطيور التي كانت تعطيني الدفء وتحتضنني. يئست من الانتظار وطول الانتظار لمْ أتلق أي مكالمة هاتفية أو زيارة أو رسالة أيميل أو حتى رسالة نصية أيقنت سقوط جدار العلاقات الإنسانية وتدميره بسبب الجفاف العاطفي والتواصل بين المعارف على جميع المستويات.

حقيقة لا نستطيع نغطيها أنْ نهرب منها ولا نخفيها حقيقة الأنا والنَّرجسية والطَّاووسية وجميعها توصل للكبر وقد حذرنا المصطفى عليه الصلاة والسلام من الكبر إلى أبعد مدى بقوله (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر). وحيداً أجلس معظم وقتي أتذكر تلك الأيام الماضية، وكم كنت طيباً محبوباً قريباً للجميع مع هذا كله أصبحت أطير خارج السرب. والآن وبعد هذه الرحلة التشاؤمية الواقعية رضخت للواقع ويئست من تغيره فالواقع صعب المراس والتعامل معه أصعب أو حتى الاقتراب من سوره، الواقع بحر مارد هائج سونامي العصر من يقف في وجهه فنهايته الهلاك والضياع لكن الوقوف لجانب سورة ربما يعطيك شيئاً من اللا واقعية. حيرة من نهج وسلوك الإنسان الذي يبتعد عن طبيعة الإنسان، الإنسان الذي يتغير ويتبدل حسب مصالحة ويدوس على الآخرين في سبيل ذلك. الكرسي وزملاء العمل ابتعدت عنهم في الواقع هم ابتعدوا عنّي، الكرسي جلس عليه إنسان آخر سوف يتجرع مرارة الكرسي اليوم أو مستقبلاً. لا ذنب للكرسي إن كان يدور.. المشكلة في الذي يجلس عليه بل كل من حولي، ها أنا أستسلم وأرفع الراية البيضاء وأمضي سبيلي وأمسح دموع اليأس، اليأس من تغيير حالي لكن كما يقال تغيير الحال من المحال، اليوم أجد نفسي مستسلماً بعد أن رفعت الراية البيضاء وأيقنت أنه لا مجال للتغيير في ظل الابتعاد عن القيم الإنسانية والركض وراء المال والمال وحدة والكرسي وجبروته والنعيم الوقتي والزمالة التي تلهث وراء مصلحتها وتلبس قناع البراءة والحمل الوديع أوصلتني للنهاية المتوقعة لكنني كنت أتجاهلها.

sureothman@hotmail.com

www.o-abaalkhail.com

مقالات أخرى للكاتب