كذبَ «المدرعمون» ولو صدقوا

كاد «المدرعم» من فرط «لقافته»، وتسرُّعه ودخوله في أي موضوع بالعرض وليس بالطول والتسلسل المنطقي أن يُوصف بالحمق والسفه. يضر حيث يريد النفع لأنه «يطامر» وراء أي حدث دون علم ومعرفة، أو وعي وإدراك، ودون تقدير لعواقب الأمور.

حدث الطائرة الماليزية المنكوبة برحلتها من كوالالمبور إلى بكين، كان فرصة لتلك العينات المزعجة التي ألفنا ظهورها في كل حادثة لتتولى التحليل والتفسير وطرح التنبؤات المستقبلية حتى تظهر الحقائق لتنسحب من المشهد دون حياء على أمل العودة في الكوارث القادمة. كانت أيضاً فرصة لعينات جديدة تظهر لأول مرة فنحن في مجتمع من سبق فيه لبق. الوجوه الجديدة وهي وجوه لا تستحق أن تذكر أو نقف عند خزعبلاتها أكدت علمها بمكان الطائرة وأن بعض ركابها ما زالوا يتواصلون مع أهاليهم، في حين أكد بعضهم أن الشياطين قد اختطفوا الطائرة حال إقلاعها وهذا أسلوب جديد في عالم اختطاف الطائرات لم نعرفه من قبل قد يؤدي مستقبلاً إلى إحجام المسافرين عن السفر بالطائرات. غابت المعلومة الدقيقة لأيام فوجد «المدرعمون» فرصتهم، لكنها حين حضرت غابوا تماماً عن المشهد ليس حياءً فهم أبعد ما يكونون عن الحياء، ولكن لأن لا شيء بعد البيان الرسمي يقولونه أو يتحدثون عنه إلا عن فقْد الصندوق الأسود ومواقع أشلاء الركاب المتناثرة في المحيط الهندي، وإن كان ثمة صور لوجوههم فلا بأس لدى البعض من تفحصها بعناية لمعرفة مقطب الجبين ومصيره المشين، وتحديد المبتسمين منهم ومآلاتهم النورانية، وكأن هؤلاء قد وضعوا أنفسهم في مكانة تسمح لهم بالحكم على خلق الله ومصيرهم بعد الموت، وهو مصير لا يعلمه إلا من خلقهم.

في حادثة الطائرة الماليزية، وكيفية اختفائها المفاجئ عن مراصد أبراج المراقبة ثم سقوط حطامها في مواقع متباعدة في المحيط الهندي ما زالت هناك مساحات واسعة للمدرعمين، فما زال في آثار الكارثة بقية تسمح لأولئك المتفرجين من بعد أن يركضوا كي يفسروا ويحللوا ويفتوا، وسيخرج من يقول إنه قد رأى رؤيا قبل وقوع الطائرة، وإن تفسيره الدقيق هو ما حدث، وسيؤكد غيره أن شياطين المحيط الهندي قد سرقوا الصندوق الأسود بعد أن مثّلوا بالجثث، وأن مسألة استعادة الصندوق منهم مستحيلة إلا في حال أن قام بعض السحرة بالتوسط لديهم لإعادة الصندوق، وهذا الأمر يحتاج رصد ميزانيات ضخمة!

سيستمر «المدرعمون» باختلاف توجهاتهم يقتاتون على تبعات هذه الكارثة حتى يعثر الباحثون الجادون على كل أجزاء الطائرة، وكذلك جثث الركاب، وبعدها سيديرون ظهورهم ويطوون صفحاتها ليفتحوا صفحات جديدة مع أول حدث قادم.

الفريق العلمي الجاد يُواصل بحثه ليلاً ونهاراً حتى قال رئيس الفريق: «لا نحاول العثور على إبرة في كومة قش، بل إننا نحاول أن نحدد كومة القش»، بينما تفرّغ الفضوليون للتعليقات ونشر الأكاذيب وهي عادتهم التي لن يتخلوا عنها، ولو تركوها لكسدت تجارتهم، قد يصدق «المدرعم» مرة لكنه يكذب مئة مرة حتى يصدّقه الناس!