Monday 31/03/2014 Issue 15159 الأثنين 30 جمادى الأول 1435 العدد
31-03-2014

المثقفون العرب لم ينتجوا نظرية لدولهم!

«لا يوجد أكثر عملية من النظرية الجيدة».. تلك من المقولات المشهورة التي صارت مثلاً بالعلوم الإنسانية التطبيقية، وهي للعالِم كورت لوين. إذ يُشترط بالنظرية الجيدة أن تطرح أفكاراً تستوعب الوضع الراهن وأزماته، وتحمل مقترحات مناسبة للتعامل معه أو إمكانية للحل.

أغلب النظريات المتعلقة بالدولة بالمنطقة العربية لا تتناول مفهوم الدولة الوطنية الراهنة بل الأمة المُتخيلة. ورغم ما يمر به واقع المنطقة من أزمات عاصفة يهدد كيان بعض الدول، ورغم تنوع بُنى الدول العربية واستقرار بعضها كالنظم الملكية على خلاف النظم الجمهورية، ورغم الحاجة لدراستها وتصنيف الدول العربية معيارياً ومعرفة الأسس البنيوية لهذه الفروقات، فنظرية الدولة لم تنل ما تستحق من الدراسة المنهجية بل عانت من إهمال فكري مما حدا بالباحث الجاد نزيه الأيوبي أن يضع عنواناً «الدولة العربية: جهاز دون نظرية؟»، ويستثنى من ذلك عدد ضئيل من المفكرين أمثال العروي، الجابري، شرارة.

العديد من الدراسات السياسية التي يقدمها باحثون عرب للمجلات العلمية الغربية وحتى المجلات الأكاديمية العربية تُرفض لأنها مؤدلجة أو نظريات مجردة غير منهجية وغير معيارية وغير قابلة للتحديد الواقعي والمقارنة التطبيقية.

في الغالب لدينا نمطان لتناول الدولة العربية؛ الأول يحلق في خيال الدولة العابرة للحدود؛ الأمة المرغوبة المستحيلة وليس الدولة الواقعية الممكنة! هذا المفهوم تطرحه أغلب الحركات السياسية، سواء الإسلاموية (دولة الخلافة) أو القومية (دولة عربية واحدة)، أو اليسارية (عمالية واحدة).. أما تلك التي لا تَعبر حدود الدولة فتصرّ على ديمقراطية بنمط غربي متقدم طامحة إلى صندوق اقتراع يهبط من فوق قبل البناء الذي يؤسس من تحت.

والنمط الثاني تكنوقراطي ينحصر في أحد الأجزاء الفرعية لمؤسسات الدولة، وليس ككيان سياسي شامل وإطار تنظيمي يوحد المجتمع.

وقد تكون هذه الأعمال على مستوى تقني راق لكنها مجزأة بين تنظيمات الدولة كعناصر متفرقة وليس كجهاز متكامل، أي تتناول إحدى جزئيات هياكل الدولة كالأجهزة البيروقراطية دون الدخول في الأبعاد الاجتماعية وتأثيراتها السياسية.

قد يقول قائل ما المشكلة فتلك تنظيرات طموحة، إن لم تنفع لن تضر؟ إن عدم وجود نظرية واقعية جيدة يعني الافتقار لتصور مناسب من أجل تنفيذ ملائم.

المشكلة هنا متعددة الجوانب. أولاً: من الجانب النظري فكلا النمطين غير قادر على صياغة نظرية مناسبة للدولة. هذا الخلل النظري يجعل مشروع الدولة غير واضح في الثقافة العربية وللمستشارين في الدولة بظل أزمات طاحنة لكثير من البلدان العربية.. ارتباك وغموض وأزمة معرفية تؤثر بالمحصلة النهائية في وضع إستراتيجية واضحة وفي طريقة صنع القرارات وإصدار القوانين وبرامج العمل المناسبة..

ثانياً: الانشغال الثقافي بفكرة الأمة على حساب الدولة الوطنية أدى كثيراً إلى النقيض، أي استخدام منطق فئوي أضيق من مفهوم الدولة الوطنية.. منطق أيديولوجي له تداعيات ذهنية ونفسية تؤدي بنسبة كبيرة من المناصرين للحركات السياسية بأن تشعر عاطفياً بانتمائها لفكرة الأمة (الحلم) مقابل فكرة الدولة (الواقع).

ينتج عن ذلك تأثير في عقلية المناصرين لتلك الحركات وبعض أفراد المجتمع باتخاذ مواقف ذات بُعد فئوي أيديولوجي إقصائي (طائفياً أو عرقياً أو حزبياً) يتعارض بنهاية المطاف مع فكرة الدولة الوطنية لجميع المواطنين.

إذا أخذنا أولاً مع ثانياً ودمجناهما مع فكرة عربية شائعة وقديمة بأن الدولة منحصرة بالسلطة السياسية، فذلك يعني أن هذه السلطة منوط بها أن تقوم بجميع الأدوار، وتهيمن على الجميع سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وحتى روحياً.. لنصل إلى فهم لا يناسب الدولة الحديثة.

أوضح مظاهر هذا الفهم للدولة العربية هو الانقلابات العسكرية في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، التي أرادت أن تحل جميع المشاكل عبر الاستيلاء على السلطة السياسية، ثم تورطت في عدم قدرتها على التفعيل الشامل للدولة فصارت مستبدة وعنيفة لتغطي ضعفها..

والآن في مرحلة «الربيع العربي» فإن هذا التصور لمفهوم الدولة هو من بين ما أوقع الكثير منَّا بمأزق حاد، حيث فُهم أن كيان الدولة يقوم على صندوق انتخابات السلطة السياسية فقط.. فصارت هذه الصناديق هي قاعدة بناء الدولة، بينما هي قمة الجبل الديمقراطي وليس قاعدته التي من المفترض أن تكون المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية الحرة.. هنا قد يتحوّل الفائز (فرداً أو فئة) إلى حاكم بيده قرارات المجتمع كافة مما يمهد الطريق للاستبداد بالسلطات كافة وتقييد حرية المؤسسات المدنية وحقوق الأفراد.. وفي الأخير تهديد استقرار الدولة وكيانها، فضلا عن فاعلية أدائها!

المفهوم التبسيطي بأن الدولة منحصرة بالسلطة السياسية وأن الديمقراطية منحصرة بصناديق الاقتراع أصبح شائعاً بالثقافة العربية. خذ مثلاً في العراق نظام الحكم السياسي المنتخب فَهِم أنه الدولة وليس الحكومة، وفهم أن من حقه أن يفعل ما يشاء لأنه منتخب وممثل للأغلبية التي من حقها أن تصادر حقوق الأقلية، ودائماً يردد أنه يمثل المكون الاجتماعي الأكبر.. وكذلك تصرف إخوان مصر عندما فازوا بالانتخابات لكن تجربتهم لم تدم أكثر من عام..

في الدول العريقة ديمقراطياً تم الوصول إلى صناديق الانتخابات السياسية (البنية الفوقية) بعد إقامة المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية (البنية التحتية) التي تستطيع الدفاع عن نفسها بما يضمنه لها الدستور ليس المكتوب بالورق فقط بل المدرك بالعقول والمؤسس بالواقع.

في تلك الدول لا يستطيع الفائز بالانتخابات أن يمرر قراراته الكبرى إلا بعد موافقة البرلمان، والبرلمان لا يستطيع مخالفة أنظمة حقوقية سواء بقوة القانون أو بقوة جماعات الضغط (منظمات المجتمع المدني، الإعلام الحر، المؤسسات الاقتصادية النافذة..). هنا السلطة السياسية لا تتخذ القرارات بناء على رغبة الحاكم المنتخب، إنما قراراتها بالأساس تتشكل وتتكيف بناء على القوى الفاعلة اجتماعياً واقتصادياً.. وهذا ما تفعله أحياناً دول عربية مستقرة وناجحة رغم أنها غير ديمقراطية..

صحيح أن الواقع السياسي هو الذي يؤسس للنظرية السياسية، إلا أنهما يتفاعلان بحيث يؤثران ببعض، وتلك الأخيرة يمكنها القيام بدور إيجابي لم يقم به المثقفون العرب بعد.. والآن فإن الفهم الأغلب للديمقراطية بالعالم العربي بأنها صناديق اقتراع على كامل الدولة يظن فيها الناخب أن الحقوق تمنح للفائز وتهدر للخاسر هو إحدى النتائج الطبيعية لخلل الإدراك النظري لمفهوم الدولة الحديثة.

alhebib@yahoo.com

مقالات أخرى للكاتب