Monday 31/03/2014 Issue 15159 الأثنين 30 جمادى الأول 1435 العدد
31-03-2014

حوار «الصقهان»

عادة ما تُطلق عبارة حوار بينزنطي على الجدل الذي لا يؤدي في النهاية إلى نتيجة، وكلما وصل الحوار إلى نقطة النهاية تكتشف أنها نقطة البداية، وذلك من بوادر الحِوار المُتعطش للشكليات، لا للحِوار الهادف إلى وضع النقاط على الحروف في مسألة الاختلافات، لكن يبدو حواري مع الدكتور عبد الله المعيدي أكثر من حوار بيزنطي، لكن هل كان حواراً مع الطرشان، فالأطرش يسمع قليلاً، خلافاً للأصمّ الذي لا يسمع مطلقاً، لذا يضطر إلى تقدير ما لم يسمع، ثم يجيب عنه بكلام يختلف عن الكلام الذي قدّر أنّ الآخر قاله، لكن ذلك لا ينطبق على الحوار مع فضيلته، فقد كان مكتوباً، ولم يكن حواراً مسموعاً.

حاولت أن أبحث عن تشخيص لتلك المسألة في القاموس الطبي، ووجدت متلازمة طبية شهيرة هي (dyslexia)، وتعني عسر القراءة، لكنها مع ذلك لا تنطبق على الحوار، لأن تلك المشكلة الطبية تعني عسر القراءة في مجمل المقال ، لكن اتضح لي من رده - حفظه الله - أن رسالة الخبر الآحاد ومأزق التعامل معها كقطعي الثبوت أو ظني الثبوت وصلت، عندها أيقنت أنني أمام تشخيص حالة جديدة من الحوار، وتستحق الاهتمام والتوثيق كحالة جديدة في أنواع الحوارات المتعارف عليها، وربما سأحيلها لأكاديمية الحوار.

كتبت هذه المقدمة بعد أن تفاجأت في حواري مع الدكتور عبد الله المعيدي، الذي كان موضوعه الأساس حول مسألة قطعية ثبوت حديث شرب بول الإبل، كما ظهر في رده الأول في يوم الجمعة، الموافق 22 مارس 2014 ، عن أبوال وألبان الإبل، لكن الدهشة في رده الأخير في يوم الجمعة الموافق 28 مارس 2014 أنه نسف موضوع الحوار من جذوره، فاختفت تماما كلمة بول في مقاله الأخير، وكتب التالي ((وقد قرأت رد الدكتور عبد العزيز السماري على ردي عليه في مسألة حليب الإبل وإنكاره للحديث الوارد في ذلك))، وختم رده بقوله التالي ((إن قولك بعدم جواز شرب حليب الإبل قول شاذ بل باطل، لم يقل به أحد من الأئمة، بل يلزم منه حرمة أكل لحم الإبل، فهل تقول بذلك))، وكأن الحوار كان حول شرب الحليب وليس البول!!

من أجل توثيق هذه المسألة النادرة في الحوار أطالب بالرجوع لمقال (الإبل مخلوقات من شياطين)، ثم التأكد أن الحوار كان حول حديث شرب بول الإبل، ولم أتطرق على الإطلاق إلى جواز أو عدم جواز شرب حليب الإبل أو إلى إنكار الحديث، لكن طالبت باتباع المنهجية العلمية التي وضعها المسلمون الأوائل، وهو أن النقل ينقسم إلى بابين، باب النصوص الدينية القطعية النقل بالتواتر، وباب نقل الأحاديث الآحاد والظنية الثبوت، لكنه كال التهم على أن المبتدعة كالأشاعرة يقولون بهذا، وكأنهم فرقة شاذة من كوكب آخر.

لكن هل غاب عن الدكتور أن معظم علماء الحديث والتفسير، إن لم يكن جلهم، كانوا من الأشاعرة، مثل أحمد بن حجر العسقلاني شيخ المحدثين، وصاحب كتاب فتح الباري على شرح البخاري، والإمام النووي صاحب شرح صحيح مسلم والإمام القرطبي صاحب تفسير الجامع لأحكام القرآن، وابن حجر الهيتمي صاحب كتاب (الزواجر عن اقتراف الكبائر)، والإمام أبو بكر الباقلاني ، والإمام العسقلاني والإمام النسفي والإمام الشربيني، وأبو حيان النحوي صاحب تفسير البحر المحيط، والإمام ابن جزي صاحب التسهيل في علوم التنزيل) إلخ..، ومنهم أيضاً الرموز صلاح الدين الأيوبي ومحمد الفاتح ونور الدين زنكي والعز بن عبد السلام وعمر المختار وغيرهم.

ولو أردنا أن نعدد بقية الأعلام من المحدثين والمفسرين والفقهاء، من أئمة الأشاعرة لضاق بنا المكان، واحتجنا إلى مجلدات في سرد أولئك العلماء الأفاضل الذين ملأ علمهم مشارق الأرض ومغاربها، والحق ضالة المؤمن، فالمنهج العلمي الذي يفرق بين القطعي الثبوت والظني الثبوت من أخبار الآحاد أثبت العلم الحديث صحته، ويجب أن يُتبع، بينما عند التعامل مع الأخبار الآحاد كنقل قطعي الثبوت عن رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام، ستصبح شيطنة الإبل، على أنها مخلوقات من شياطين حقيقة قطعية، وبناء على ذلك يجب تطبيق الشرع، وتحريم مهرجاناتها واقتنائها، وسيتحول شراب بول الإبل إلى وصفة طبية يكتبها الأطباء لمرضاهم في المستشفيات.!

وفي نهاية المقال أطالب بحفظ حقي في اكتشاف هذه النوعية النادرة من الحوار الذي دائماً ما تتكرر في بعض الحوارات الوطنية والثقافية، التي هي أقرب لحوار «الصقهان»، لأن مدلول الأصقه الشعبي يختلف عن مدلول الكلمة العربية «الأطرش»، ويكمن ذلك في أن الأصقه يختار أن لا يفهم عن قصد، وعليه أدعو الأجيال الجديدة أن تُعلم أبناءها المنطق والفلسفة وتاريخ تطور العلم، وقبل ذلك أن تهتم بتعلم مناهج المسلمين الأوائل، وكيف وضعوا الأسس العلمية لنقل الحقائق العلمية، وإن لم تفعل سيُصابون بمتلازمة «حوار الصقهان».

مقالات أخرى للكاتب