Saturday 05/04/2014 Issue 15164 السبت 05 جمادى الآخرة 1435 العدد
05-04-2014

عن ضرورة الخوض في الأولويات: دروس من البرازيل

شهدت البرازيل خلال السنتين الماضيتين عدة مظاهرات اجتماعية لم تشهدها البلدة منذ ما يزيد عن عشرين سنة احتجاجا أولا على رفع أسعار خدمات النقل العمومي وثانيا احتجاجا على ضعف الخدمات العامة وغلاء المعيشة وعدم الاهتمام بأولويات

الأولويات، كالخوض في الإعداد المكلف لاستضافة كأس العالم لكرة القدم والتغاضي عن الحاجيات الملحة لشرائح مهمة من المجتمع؛ وهذه الاحتجاجات هي الأضخم منذ التحركات الاجتماعية التي جرت سنة 1992 ضد حكومة الرئيس السابق فرناندو كولوردي ميلو الذي اضطر إلى الاستقالة أثناء محاكمته السياسية أمام مجلس الشيوخ...

دولة البرازيل استحكمت فيها آليات الانتقال الديمقراطي على شاكلة دول أمريكا اللاتينية في أواخر سبعينيات القرن الماضي: الإكوادور (سنة 1984)، البيرو (سنة 1980)، بوليفيا (سنة 1982)، الأرجنتين (سنة 1983)، الأوروكواي (سنة 1984)، البرازيل (سنة 1985)، الشيلي (سنة 1989). وكل تجربة ديمقراطية في هذه البلدان لها خصائصها ولكنها متشابهة في المآلات السياسية؛ فهي كلها عرفت طريقها إلى الديمقراطية دون تدخل عسكري أجنبي، أو اقتتال داخلي مر، وهو المسلسل الذي يحيلنا إلى التجربة التي عرفتها دول أوروبا الجنوبية مع انهيار ديكتاتوريتي البرتغال واليونان (سنة 1974) وإسبانيا (سنة 1976)... فمنذ عودة النظام البيروقراطي-السلطوي والانقلاب العسكري سنة 1965 في البرازيل، عرفت البلاد اختناقا سياسيا إلى حدود سنة 1985 حيث بدأت مؤسسات الدولة في إحداث نقلة سياسية لا مثيل لها بلورها دستور البلاد سنة 1988 المطبق لحد الساعة (قارن معي هنا: الدستور لم يتوافق عليه في الصيغة المتالية إلا ثلاث سنوات بعد انهيار النظام السلطوي القديم)، والمؤسس لجمهورية فدرالية مكونة من ست وعشرين دولة، وبرلمان مكون من غرفتين؛ ومنذ ذلك الوقت والانتخابات الرئاسية وانتخاب الحاكمين تجري باستمرار وعلى أسس ديمقراطية؛ ولكن هذا لا يعني أن الإرث السلطوي لم يترك بصماته في دولة البرازيل الحديثة خاصة فيما يتعلق بديمومة العوامل المورثة عن العبودية وعن تمركز الملكية والمداخيل المرتفعة في يد أقلية من البرازيليين، والبون الشاسع بين الطبقات، والميكرو سلطوية على حد تعبير كييرمو أودونيل، بين تلك الطبقات، وداخل المجال السياسي وأجهزة البوليس المكلفة بمحاربة الجريمة والجريمة المنظمة. ويكفي الإشارة هنا إلى أنه بين سنة 1985 و2003 ومن بين 1300 جريمة قتل، فقط 75 منها حوكم أصحابها بما يوحي بتواجد شبكة موازية لا ديمقراطية مع الديمقراطية البرازيلية الرسمية.

ومع ذلك كله، فقد عرف اقتصاد البرازيل مع رياح الديمقراطية قفزة لا يعلى عليها، حيث أضحت دولة فلاحية بامتياز ودولة صناعية قوية جدا وذلك بالاستثمار في الموارد الطبيعية للبلد وفي العامل البشري البرازيلي؛ ولكن الذي لم تستطع الدولة البرازيلية القيام به على شاكلة التجارب الديمقراطية العتيدة كما هو الشأن في بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية هو التوزيع الأمثل للثروات بين مختلف الشرائح المجتمعية، فنوعية النظام السياسي-الاقتصادي وتأثير الحقب السالفة لسنة 1985، جعلت البرازيل فيما يمكن أن يسمى على حد تعبير الكاتبة أرونداتي روا في حديثها عن المجتمع الهندي، في مواجهة أضخم آلة لصناعة الفقر، حيث تتكدس الأموال في قسمة ضيزى بين أناس أو طبقات معينة، مما جعل البرازيل من الدول الأكثر سوءا في توزيعها للغنى في دول أمريكا اللاتينية...كما أن المجتمع المدني البرازيلي، على حد تعبير المنظر الكبير الفريد ستيبان كان هو البطل في مواجهة الديكتاتورية العسكرية واستطاع هذا المجتمع أن يحدث بلبلة سياسية تمخض عنها رجوع الديمقراطية إلى البلد والاندماج فيما بعد في التغيير السوسيو-اقتصادي...

فالمظاهرات الحاشدة التي عرفتها البرازيل تدخل في هذا النسق السوسيو- سياسي العام الذي وصفته هنا: 1- التواجد الدائم لبعض أنواع السلطوية الموروثة عن حقبة ما قبل سنة 1985، 2- البون الشاسع بين الطبقات وبين الأغنياء والفقراء، 3- قوة ودور المجتمع المدني...

ان 15 مليار دولار التي خصصتها الحكومة البرازيلية لاستضافة كأس القارات وكأس العالم هو مبلغ ضخم جعل المجتمع المدني البرازيلي يخرج بعفوية إلى الشوارع (بعد أن أعلنت البرازيل أن اقتصادها سنة 2013 سجل نموا ضعيفا 0.6 في المائة في الربع الأول ووصلت نسبة التضخم إلى 6.5 في المائة في أيار الحالي)، وهناك أمور قد يعتبرها الحاكم تافهة ولكنها مدخل إلى باب جهنم، وأعني بذلك وسائل النقل العمومية؛ فهي المحك الحقيقي الذي قد يجعل أي مجتمع يثور على منتخبيه... فالحافلات ووسائل النقل العمومية هي الشرايين الدموية في المجتمعات الديمقراطية الحديثة كما هو شأن المجتمعات التي خرجت من أنظمة سلطوية مستعصية... وهي تهم الطلبة والعمال والمستضعفين والطبقات المتوسطة... فزيادة الأسعار فيها أو الدخول في إضرابات لا متناهية قد تنذر بأيام عجاف للسلطات كيفما كان نوعها... وهي المسألة التي أشعلت نار الغضب عند البرازيليين لتليها انتقادات عارمة ومطالبات أوسع شملت كل مناحي الحياة.

التجربة البرازيلية مليئة بالدروس والعبر للعديد من الدول، منها أن تثبيت الانفتاح السياسي مسألة صعبة وتتطلب جرأة وذكاء ودراية، ومنها أن الإرث السلطوي إذا بقي فإنه يعطل عجلات النمو ولو بعد عقود من الممارسة ومنها أنه من أولويات الأولويات في هذه المجتمعات ما بعد انهيار النظام السلطوي هو القضاء على الطبقات والتوزيع العادل للثروات وأخذ الحيطة والحذر في إدارة الشأن العام وما يتعلق بالأسعار والمواد وبالأخص ما يتعلق منها بالموارد الأولوية ووسائل النقل العمومية...

إن دولا كمصر وتونس في حاجة إلى مليونيات شعارها النهوض بالتربية والتعليم وشعارها النهوض بالمدرسة والمدرس... الدين بخير في أوطاننا العربية... فالذي ينقصنا كما كتبناه مرارا في هذه الفترة الحاسمة هو إدارة الشأن العام وإصلاحه وعلى رأس أولوياته قطاع التربية والتعليم... والثورات العربية لم تقم من أجل تطبيق الشريعة لأن الشريعة بخير وإنما قامت لإصلاح ما اعوج في السيرورة التنموية والاقتصادية والمعرفية في أوطاننا...

والمليونيات يجب أن تنتقل في الحين من الرغبة في «الإسقاط» و»استغلال الدين في السياسة» إلى الوعي الصحيح «للإصلاح»، قال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}.

والكل يجمع على التخلف النسبي للمنطقة العربية في اكتساب المعرفة ناهيك عن إنتاجها، ولذا فإن على كل مجتمع وقطر عربي أن يسعى إلى تطوير هذا المورد الإنساني الذي لا ينقص بل ينمو باستعماله، وتتكون المعرفة من البيانات والمعلومات والإرشادات والأفكار، أو بمعنى آخر مجمل البنى الرمزية التي يحملها الإنسان أو يمتلكها المجتمع، في سياق دلالي وتاريخي محدد، وتوجه السلوك البشري، فردياً ومؤسسياً، في مجالات النشاط الإنساني كافة في إنتاج السلع والخدمات، وفي نشاط المجتمع المدني والسياسة وفي الحياة الخاصة؛ وهناك ضرورة إعادة النظر في المنظومة التربوية والنموذج المعرفي السائد في الوطن العربي ليسهم في إقامة التنمية الإنسانية، فالمنظومة ذاتها تعاني تخلف المجتمع، لكونها جزءاً لا يتجزأ منه، وتحد من فعالياتها قيود كثيرة يفرضها هذا السياق المجتمعي؛ وعلى كل المجتمعات العربية أن تكافئ بشكل جلي، اكتساب المعرفة وتوظيفها من خلال التعليم والتعلم والبحث والتطوير الثقافي، وجميع صنوف التعبير الأدبي والفني؛ فيجب تطوير البنى المجتمعية القائمة: الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية للرقي بحظ المجتمع في اكتساب المعرفة الصحيحة ولإقامة مجتمع معرفي يصبو إلى تأسيس نمط إنتاج المعرفة...

مقالات أخرى للكاتب