Saturday 15/03/2014 Issue 15143 السبت 14 جمادى الأول 1435 العدد
15-03-2014

السياسة جوهرها إدارة الاختلاف.. والدين يوحد ولا يفرق

الحديث عن الشأن العام يعني الخوض في الحياة المعيشية للإنسان من مدخول وعمل وتطبيب وتدريس وتمثيلية في المجالس المنتخبة للدفاع عن مصالحه وغيرها،

هنا تكون الغلبة لمن هو أهل بتحمل الأمانة ومسؤولية التسيير، فالكفء والنزيه والخبير هي أمور مفروضة في من يرغب في إدارة الشأن العام، وبالطبع إذا كان هذا ذا خلق ودين فهي مسألة أكثر من المحمودة. ولكن لا يجب الخلط بين الدين في شقيه التعبدي والأخلاقي وبين السياسي في إدارة الشأن العام.

ثم إن من مفاهيم السياسة أنها «فن إدارة الاختلاف»، أما جوهر الدين وروحه أنه يوحد ولا يفرق، والدين الإسلامي هو دين التوحيد بإطلاق، التوحيد على مستوى العقيدة (إله واحد)، والتوحيد على مستوى المجتمع (أمة واحدة) والتوحيد على مستوى فهم الدين وممارسته: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ}؛ أما السياسة فجوهرها إدارة الاختلاف بمعنى أن جوهرها وروحها التفريق لا محالة. السياسة تقوم حيث يوجد الاختلاف، أو حيث يمكن أن يقوم اختلاف، وبالتالي فهي أقرب إلى أن تكون «فن إدارة الاختلاف» منها إلى أي شيء آخر. والإدارة أو التسيير تعني هنا، إما إدارة الاختلاف القائم، وإما العمل على خلق اختلاف آخر جديد. ومن هنا كان ربط الدين بالسياسة -أياً كان نوع هذا الربط ودرجته- يؤدي ضرورة إلى إدخال جرثومة الاختلاف إلى الدين، والاختلاف في الدين إذا كان أصله سياسياً يؤدي إلى مشاكل داخل المجال السياسي العام وقد يؤدي في حالاته القصوى إلى الطائفية والحرب الأهلية.

الذي نراه للأسف الشديد في العديد من الأوطان أنه بدل الخوض في المعادلات الرياضية الحقيقية لتنمية المجتمعات وإخراجها من مأزق الفقر والتبعية والجهل، توظف الأحزاب الدين في السياسة أو تبحث عن مواضيع ثانوية تخلق الشعبوية وتحشد الجماهير وراءها، المشكل أن هذا الاتجاه بإمكانه أن يطول لسنوات بسبب آثار السلطوية العاتية، التي ظن بعض المحللين إن المجال السياسي العام بدا يتخلص منها في العديد من الأوطان.

ويمكن أن نرجع هنا كما أشار إلى ذلك بعض المتدخلين في الملتقى الفكري لمهرجان الجنادرية الأخير، إلى المشهد السياسي المصري في عهد الرئيس مرسي، فلا يمكن اعتبار الدولة غنيمة انتخابية التي تجيز للإنسان باسم الاستعلاء الفكري أو المذهبي أو الإديولوجي القيام بما لا يرضي الآخر أو بما لا يرضي الجائز والمعقول في السياسة الحقيقية، ولله در زميلنا الأستاذ رضوان السيد في وصف الأمر عندما كتب: «فبعد سقوط مبارك قامت ثُنائية بين الإخوان والعسكر استمرت لعدة أشهُر. وخلالها جرى الاستفتاء على الإعلان الدستوري الأول، ثم جرت انتخابات مجلسَي الشعب والشورى. وكما صوَّر الإخوان الأمر في الإعلان على أنه إعلان إسلام مصر أو علمانيتها، كذلك مضوا إلى انتخابات مجلسَي الشعب والشورى بشعارات الإسلام هو الحلّ، وتطبيق الشريعة. ويومها بدأ الاستقطاب بينهم وبين العسكر فرشَّحوا اثنين منهم لرئاسة الجمهورية، ورشح العسكر اثنين، وأُحرج الثوريون فصوَّتوا لمرشح الإخوان، فانخدم بذلك الإخوان الذين سيطروا على الرئاسة والبرلمان ومجلس الشورى ورئاسة الحكومة. فكان لابد من انتهاز الفرصة النادرة والتي لن تتكرر: بإقرار الدستور في الاستفتاء بحيث تخلد صلاحيات رئيس الجمهورية. وما فكّر الرئيس ومحازبوه ولو للحظة واحدة أنّ المعارضين السياسيين يمكن أن يتحدوهم بسبب الاختلاف الكبير فيما بينهم. أما القضاة فيمكن ضبطهم بطريقتين في الوقت نفسِه: إرعابهم من طريق عزل النائب العام والطحشة عليهم باتهامهم بأنهم من فلول الرئيس مبارك! ومن ناحية ثانية طمأنتهم إلى أنّ هذه التحصينات والتعطيلات قصيرة المدى، وستنتهي بانتهاء الاستفتاء وظهور نتائجه! يعلم الإخوان أنّ السلطة ليست محسومة لهم، فما حصل الرئيس مرسي على أكثر من مليون صوت في مواجهة أحمد شفيق. ولذا فالمطلوب الإسراع ما دامت الدولة كلّها باليد الآن، وتثبيت صلاحيات الرئيس بالدستور. والجيش مشغول بسيناء وغزة، ومحرمات الأمريكيين. والأمريكيون راضون وقد ازدادوا رضا بدور مرسي والإخوان في ضبط الوضع بغزة. وإذا استتبّ لهم أمر الدستور، ثم أمر مجلس الشعب بعده، يحكم الإخوان مصر حكم المماليك، لسنواتٍ وسنواتٍ قادمة! إنّ الصراع إذن هو صراعٌ على السلطة هجمت فيه قوى الرئيس مرسي لاستكمال السيطرة. واستعانت في ذلك بإعطاء الجيش والسلفيين ما يناسب كلا منهم في الفترة الراهنة. وقد أدرك القضاة أنه مقضي عليهم فثاروا وهاجووقاطعوا. في حين ثارت المعارضة السياسية موقنة أن العزلَ السياسي يوشك أن يقضي عليها في عدة أشهر! وهكذا فإنّ هذا الصراع هو صراعٌ على السلطة...» والبقية طبعاً معروفة.

في هاته الحالة، وفي بيئة انتقالية معقدة تنتقي أهداف الحوار وتتوقف وحتى إذا كان هناك حوار فلا يقود إلى نتائج إيجابية مشتركة: (أقول له: عمرو.. فيفهم خالداً ويكتبها زيداً.. وينطقها سعداً..)، فالحلبة السياسية المصرية كانت سنتين بعد الثورة معركة صعبة اجتمعت فيها التناقضات السياسية والفكرية والإعلامية النخبوية والشعبوية الهدامة ونزاعات على السلطات والمناصب والتاريخ والمستقبل، ولله عاقبة الأمور.

والشعوب للأسف الشديد هي التي تدفع الثمن غالياً إذا لم تعط لتدبير الشأن العام الأولوية وكامل الأهمية، وإذا لم يجلب أناس قادرون على تحمل المسؤولية... عار ثم عار على لجوء العقل السياسي العربي اليوم إلى مشاكل يكون المجتمع في غنى عنها، فالنضج والتطور ضرورتان عند كل مكون سياسي الذي عليه أمانة طرح القضايا الاجتماعية والاقتصادية طرحاً رياضياً صحيحاً وأمانة التعبير عنها تعبيراً سياسياً ومطابقاً، فكل المكونات السياسية مطالبة اليوم، لكي ترتفع بنفسها إلى مستوى الأهداف والأولويات لمجتمعاتها، وعلى رأسها تسيير الشأن العام الذي من خلاله ستنمو المجتمعات وتتطور اقتصادياً واجتماعياً، فإذا حولت السياسة الدين إلى عامل تفريق فستهزم الدولة بسرعة وستبلغ الغاية من مداها وتتداعى إلى التلاشي والاضمحلال، والله وارث الأرض ومن عليها.

الأحزاب الإسلامية في بعض الأوطان العربية لها قدرة على تعبئة الناس انطلاقاً من عاملين أساسيين:

العامل الأول: استغلال منظمات المجتمع المدني التي تشتغل كثيراً في المجالات الاجتماعية وفي الأوساط الفقيرة والشعبية، وغالباً ما تكون تلك المنظمات قريبة من الأحزاب الإسلامية، فتكون بمثابة الخزان الانتخابي لها في حشد الأصوات وحث العام والخاص على التصويت لها في الانتخابات، بمعنى أن الأحزاب الإسلامية تعمل في حقل هجرته الأحزاب اليسارية والليبرالية على السواء إلا النزر القليل منها.

والعامل الثاني: تفاعل أفراد الجمهور المجتمعي مع خطاب الأحزاب الإسلامية الذي يحرك ساكنهم ويتطرق إلى فقرهم وحرمانهم وتهميشهم داخل المجال السياسي العام والمجال الاقتصادي، والتنديد الدائم بسطوة جزء من الأغنياء الذين اغتنوا من مال الدولة أو من ظروف لا تتاح إلا لأمثالهم، ونجد سوابق لمثل هذه الخطابات عند القوميين والماركسيين العرب، ولكن بعيداً عن المشترك بين الخطابات، وتتفرد الأحزاب الإسلامية باستثمار الرأسمال الديني حيث يتعلق الأمر بالرموز الدينية الإسلامية المستدعاة لخلق المشروعية الدينية على المشروع السياسي الحركي الإسلامي مثلما يتعلق بالنجاح في مخاطبة الذهنية الشعبية العامة المتمسكة بالرمز الديني، وهو ما فعلته الحركات الإسلامية منذ ثمانية عقود، لا ينفصل عن إدراكها لطبيعة تلك الذهنية العامة السائدة لدى الأغلبية الساحقة من الشعب. ولأن الحركات الإسلامية لا تعوزها البراغماتية، بل هي فيها معلمة ولأنها ليست جماعات وعظ وإرشاد دينية، بل تيارات حزبية قامت من أجل حيازة السلطة، فإنها جنحت للتعبئة الحزبية من المداخل الدينية: مخاطبة الجمهور بالمفردات التي يفهم، وبالتناسب مع ذهنيته وأفكاره الموروثة عن مئات السنين.. ولله الأمر من قبل ومن بعد.

مقالات أخرى للكاتب