Sunday 27/04/2014 Issue 15186 الأحد 27 جمادى الآخرة 1435 العدد
27-04-2014

وداعاً (غابرييل غارسيا ماركيز).. وداعاً يا (أكبر كولومبي.. في التاريخ)

إذا كانت روايته (مائة عام من العزلة).. قد منحته (جائزة نوبل) للآداب عن عام 1983م.. كأول أديب يحصل عليها من (أمريكا اللاتينية)، الأمر الذي منح «البراءة» وقتها للجمعية الملكية السويدية من «تهمة» الانحياز في منحها -فقط!!-: إما لأدباء وشعراء الغرب.. أو لـ(المنشقين) على الاتحاد السوفييتي في أيامه.. مع ندرة من شعراء الشرق كـ

(طاغور) وإقبال، وخلص الجائزة من سقطة منحها المدوية عام 1953م لـ(السياسي) البريطاني الأشهر ونستون تشرشل (!!) لتمر تلك السقطة بعد ذلك كما لو أنها إحدى كبوات الجائزة.. ليس أكثر، فإن مذكراته (نعيشها.. لنرويها) والتي كتبها بعد ذلك بعشرين عاماً (2003م) وهو في السادسة والسبعين عاماً من عمره.. تستحق أن يُمنح من أجلها (نوبل للآداب) ثانية.. ليكون أول أديب في العالم يحصل عليها لـ (مرتين)!! إذا كان ذلك وارداً في عرف الجمعية الملكية السويدية، ففي الخمسمائة والاثنى عشرة صفحة التي تمثل قوامها، وفي سطورها المكتظة والمتلاصقة والمتلاحقة.. مئات القصص والروايات عن نفسه ووالدته وجدته وزملاء الصحافة ورفاق الأدب وعن وطنه الصغير (كولومبيا) وقارته الكبيرة (أمريكا اللاتينية) المكبوتة بجبروت جارتها الشمالية (الولايات المتحدة الأمريكية).. وسط شلال متدفق من المواقف السياسية الدامية الدامعة والإنسانية النبيلة الرائعة، التي عاشها (غابيتو) -كما كانت تدلـله أمه في طفولته- وكتبها (غبراييل) في شيخوخته.. بأشجانه وأحزانه، وروح فنان وقلب إنسان وذاكرة مؤرخ، والتي بدأها.. بقصة ذلك اليوم الذي جاءته فيه والدته.. وقد بلغ الثانية والعشرين من عمره.. لتصطحبه معها في رحلة إلى بيت العائلة القديم والمهجور في (اراكاتاكا).. لبيعه حتى تتمكن من الإنفاق على بقية إخوانه وأخواته التسع (فقد كان.. هو عاشرهم)، وليس معها إلا ثمن تذكرة سفرها وسفره بالقطار.. فإذا لم تبع البيت في تلك الرحلة، فإن عودتهم إلى (بوغوتا) ثانية.. ستصبح في علم الغيب، ليسترجع خلال ساعات الرحلة الطويلة على صوت عجلات القطار الرتيبة المتكررة.. قصة طفولته وفقره وقلته وهو يتقافز بين أرصفة شوارع مدينته (اراكاتاكا) بـ(صندله) المصنوع من الخرق حتى يوفر حذاءه (الجلدي) للمناسبات والأعياد.. ليبيع الصحف اليومية ويوزع النشرات الإعلانية على جلساء المقاهي وعابري الطريق حتى يعين نفسه وأسرته الوفيرة العدد.. إلى أن وصل إلى ثانوية العاصمة (بوغوتا) وعثر على نسخة مغبرة غير مكتملة الصفحات من كتاب (ألف ليلة وليلة).. فبهرته حكاياته و(بساطه السحري) و(قمقمه) العجيب الذي يُحبس فيه الإنس والجان لأيام وشهور وسنوات، و(خاتمه) الأسطوري و(مارده) الذي يخرج عند لمسه.. صائحاً: (شبيك لبيك).. ليبدأ محاولاته الأدبية الأولى (شعراً) بمهاجاة زملائه وأساتذته بشعر (حلمنتيشي) كاريكاتوري ضاحك لاذعقع في يد (مراقب) المدرسة الذي استدعاه ووبخه.. لكنه احتفظ بـ(قصاصات) تلك الأزجال في مكتبه، ليستدعيه بعد ذلك مدير المدرسة.. ويسأله عن كاتب هذه (الأزجال) ولكن بروح المُعجب بها وليس العازم على معاقبة (كاتبها)..؟ ليقول له: إنها لي..!، ثم يضيف بعد ذلك خجلاً وكأنه يعتذر مبرراً فعلته: إنها (بعض ترهاتي)!! فيقترح عليه مدير المدرسة نشرها في مجلة (الشباب) صوت طلبة المدرسة الرسمي.. ليفاجأ بها (غابيتو) بعد ذلك منشورة.. تحت ذات العنوان: (بعض ترهاتي)!! لتصبح تلك الأزجال -فيما بعد- هي باكورة أعمال الكاتب والروائي الكبير (غابراييل غارسيا ماركيز)..! إلى أن ذهب إلى (الجامعة) إرضاءً لوالده الذي أراده أن يكون طبيباً ليعوض به حلمه الذي لم يتحقق في أن يكون - هو نفسه - طبيباً بدلاً من أن يكون (صيدلياً).. ولكنه لم يذهب إلى كلية الطب بل ذهب لدراسة الحقوق -أو القانون- ليتخرج (محامياً).. لا يعمل بمهنته بل يعمل في (الصحافة)، التي شدته إليها من مدينته (اراكاتاكا) إلى (كبارانخيا) إلى العاصمة (بوغوتا) حيث أصبح كاتب التحقيقات الأكبر والمحرر السياسي الأول لصحيفة الـ(سبكتادور) المسائية الصدامية، التي تنتهي أعدادها الخمسة آلاف.. من الأسواق بعد نصف ساعة من نزولها، والتي اختارته فيما بعد وهو في الثامنة والعشرين من عمره لتغطية أحداث أول قمة سياسية عالمية تعقد بعد الحرب العالمية الثانية بمدينة (جنيف) في مايو من عام 1955م.. بين زعماء العالم الأربعة المنتصرين فيها على دول المحور (ألمانيا وإيطاليا واليابان)، فيهاتف (أمه) بنبأ سفره إلى (جنيف)، فتسأله بطيبتها وبراءتها: أهي مزرعة لأحد كبار ملاك الأراضي..؟ فيخبرها: بأنها أكبر مدن سويسرا وأهمها، فترد عليه: وكم ستبقى هناك..؟

- من أسبوع لأسبوعين..!!

ولكنه بقي بين (جنيف) و(باريس) ثلاثة أعوام، حاول خلالها أحد أصدقائه أن يشي به عند والدته المؤمنة الطيبة.. عندما أخبرها ذات يوم على الهاتف بـ(أن ابنها يعيش مثل أمير في باريس.. بعد أن خدعها بحكاية أنه سيبقى هناك لأسبوع أو أسبوعين)..؟! لترد عليه بروحها المؤمنة الشفافة الواثقة بـ(أن غابيتو لا يخدع أحداً.. المسألة هي أن الرب يضطر أحياناً لأن يجعل بعض الأسابيع سنين)!!

هكذا كانت ردة فعلها على (وشاية) ذلك الصديق.. بذات القدر من العفوية والبراءة.. والطيبة التي جعلتها تقيم (قداس السبحة) على روح ذلك المحسن الكبير، الذي أرسلت إليه ابنها (غابيتو) بطلب مساعدتها لإعاشة أبنائها، فانتظر لأربع ساعات.. حتى قيل له أن يعود بعد أسبوع في نفس الموعد، فعاد ثانية لتخبره خادمة المنزل بعد أربع ساعات أخرى.. بـ (أن هذا البيت ليس للتصدق)!! فعاد (غابيتو) إلى والدته ليخبرها -كذباً- بأن المحسن الكبير (مات)!! وهو ما جعلها تقيم ذلك القداس على روحه (من أجل راحة نفسه الأبدية)!! ولكن عندما مات المحسن الكبير حقيقة.. واضطرّ (غابيتو) لأن يخبر والدته وهو يتأمل كيف ستكون ردة فعلها على كذبته وعلى موت (المحسن الكبير) الذي لم يتصدق عليهم (ببيزة) واحدة..؟ فاجأته والدته بعد سماع الخبر.. بالبدء مجدداً في التحضير لإقامة (قداس السبحة كي يحفظه الرب في مملكته الأزلية)!!

كانت والدته (لويسا ماركيز).. كجدته (ترانكلينا) أكبر مصادر دهشته وإلهامه وتسليته وتسلية قرائه عندما استرجع حياته معهما ومع جده ووالده وهو يكتب مذكراته الفريدة بكل المقاييس (نعيشها.. لنرويها)، وكما حدث له في ذلك اليوم -الضاحك والدامع- عندما ذهب لزيارة جدته في (اراكاتاكا).. فلم يجدها لأنها ذهبت إلى مدينة (بارانكيا) لإجراء عملية جراحية في عينها بعد أن فقدت قدرتها على الإبصار أو كادت، ليصادف وقت زيارته لها.. لحظة إزالة الأربطة عن عينها في حضور طبيبها، لتقول بنشوة وسعادة: إني أرى..! ولكن الطبيب أراد أن يعرف بدقة ما الذي تراه أكثر من غيره؟ فمسحت الغرفة بعينها.. ثم أخذت تعدد محتوياتها.. بصورة انقطع معها نفس طبيبها الجراح.. إذا إنه لا شيء مما كانت تذكره كان موجوداً في الواقع، بينما (غابيتو).. كان الوحيد الذي يعلم بأنها تعدد الأشياء الموجودة في غرفتها بـ(اراكاتاكا).. وليست تلك التي تحتويها غرفتها بالمستشفى..!!

* * *

لقد كانت تلك المذكرات.. عملاً روائياً فريداً رائعاً لا حد له من الضخامة والعظمة، وهو ما استحثني لترشيحه لـ(نوبل) ثانية.. إن كان ذلك وارداً كما قلت، لكن (الموت).. كان أسرع، عندما أعلنت وكالات الأنباء.. صباح يوم الخميس -ما قبل الماضي- عن رحيل (غابيتو) أو غابرييل غارسيا ماركيز عن سبعة وثمانين عاماً وليس شاباً كما كان يتوقع، ولا هرماً عن أربعة وتسعين عاماً.. كما كان شأن والدته المؤمنة البريئة الطيبة.. تاركاً خلفه كماً هائلاً من القصص والروايات والمقالات والزوايا.

لكن.. ومع الحزن الذي اندلع عليه بين مثقفي وأدباء العالم وشعرائه قاطبة.. كان الرئيس الكولومبي (خوان مانويل سانتوس) يمسك بتلك اللحظة ليغرقها حزناً على (غابرييل غارسيا ماركيز) وإنصافاً له واعترافاً بقيمته.. وهو يعلن حداد (كولومبيا) الوطن على رحيله لثلاثة أيام.. لأنه (أكبر كولومبي في التاريخ)..!! كما قال. وهو ما لم تدركه أمم وشعوب تعاني كثيراً من ترديها.. سواء في عالمنا العربي أو في غيره..؟!

* * *

نعم.. لقد شبع غابرييل إبداعاً وكتابة، وأضاف إلى مجد أمريكا اللاتينية (الشعري) مجداً (روائياً) لا يطال.. من خلال أعماله القصصية والروائية الكثيرة والجميلة، التي سبقت وتلت (مائة عام من العزلة).. كـ(الحب في زمن الكوليرا) و(خريف البطريرك) و(الأدميرال لا يجد من يكاتبه) و(الجنرال في متاهته).. وهو يقدم في النهاية (ذوب مهنيته) عندما قال بـ(أن الرواية والتحقيق الصحفي.. ابنان لأم واحدة)!! و(ذوب معانيه).. عندما قال: (إذا كنت تعتقد أنك قادر على أن تعيش دون كتابة.. فلا تكتب)..!! ولم يستطع، إذ ظل يكتب.. ربما حتى اليوم الأخير من حياته.

فوداعاً (غابيتو)..

وداعاً (غبراييل غارسيا ماركيز)..

وداعاً.. يا (أكبر كولومبي.. في التاريخ)!!

- جدة

مقالات أخرى للكاتب