Monday 09/06/2014 Issue 15229 الأثنين 11 شعبان 1435 العدد
09-06-2014

قراءة هادئة للنصف الآخر من كأس الحياة!

ما أجمل أن ينتبذ الرجل منا أو المرأة مكاناً قصيا في منزله أو في مكتبه أو في عرض الصحراء لا يشاركه في وحدته أحد من البشر.. ثم يستثمر وقته في خلوة آمنة مطمئنة مع نفسه، بعيداً عن لظى الحياة وأعين الفضول وآذانه، يحاسب أو يعاتب نفسه بإخلاص وتجرد عمّا قال أو فعل في سالف الأيام، ثم يقرر بعزم وثقة أن (يعتذر) بلا منّة منه ولاكبرياء ولا (تمثيل) لكل من أساء إليه، عامداً كان أو ساهياً، فكل هذه أخطاء توجب تبرئة ساحة النفس من وزرها بالاعتذار لمن مسّه أذاها، فمن عفا وأصلح فأجره على الله، وله الفضل فيما فعل، ومن كابر أو استكبر ولم يستقبل عذر المعتذر بالحُسنى، فتلك براءة لذمة المعتذر ووزر ثقيل للطرف الآخر! وأحسب أن خلوة كهذه مع النفس بين الحين الآخر طهارة لها وتكفير لآثامها، ما ظهر منها وما بطن!

* * *

لستُ معنياً في تلك اللحظات الحميمة بشيء من أمور الدنيا سوى ما يدور داخل أروقة نفسي من (هواجس) لا تنقصها الصراحة ولا الصدق استعرض على شاشتها أخطائي، الحديث منها وسالف العهد، مَثَلي في ذلك مثل (تاجر أسهم) حين (يئوب) إلى نفسه في ختام كل يوم مستعرضاً أحداث يومه في (بورصة) المال والأعمال بين ربح يفرح وخسارة تترح!

* * *

إنّ كلاً منا في هذه الحياة (متسوق) في (سوق القيم) ينال من فضائلها ما كُتب له، فمرةً يفوز منها بالحُسنَى، وأخرى يخسر، والنهاية المأمولة تكمن في هامش (الربح) المعنوي، ما زاد منه مسرّ، وما نقص منه مضرّ، لكنه لا يقود إلى يأس، بل يحض على تلمس النور في نهاية النفق الطويل!

* * *

خصصت خلوة مع النفس ذات يوم لتأمل بعض نتوءات هذا الزمن وعيوبه وأنفاسه الملوثة، وكانت النتيجة لا تسرّ كثيراً، هذا لا يعني والعياذ بالله قنوطاً من رحمة الله، ولا استسلاماً لنوائب هذا الزمن وآفاته وآهاته، لكنها محاولة متفائلة لتأمل (النصف الملآن من كأس الحياة) مقارنة بنصفه الآخر، وذاك أمر لا يعيب المتأمل الفطن ولا يضره، بل يضاعف شعوره بالحذر مما هو أسوأ ويرفع رصيده من التفاؤل، بادئاً بنفسه ومن له ولاية عليه أملاً في غد أفضل وأقوم سبيلاً!

* * *

وهذه شرائح مختارة من عيوب هذا الزمن ونتوءاته التي حواها (جدول أعمال) تلك الخلوة مع النفس أسوقها بإيجاز شديد لعل في ذكرها ما يفيد، فأقول:

ألمْ تروا أن عالم اليوم يعاني من (حُمّىَ ضنك) معنوي اختلطت بسببه أوراق، واهتزت قيم، وبارت شيم، و(ثملت) من خلاله أفئدة بـ(كأس النعيم) ففقدت نعيم التوازن، ونعمةَ البصيرة ؟!

* * *

نعم.. نحن شعوبَ هذه الأرض، نعيش في زمن صعب تسعى في دروبه أشباحٌ.. من القبح المادي، والتردّي المعنوي تطل عبر بعض وسائل إعلامه التي طغت عليها أعاصير ملونة من لذّات الحس ومتع البصر، بعد أن غزتها نماذج من (شعوذة الفكر) تمتد أحياناً إلى بعض ثوابت المعتقد باسم الحرية، فيتشوه الفكر، ويسوء الظن، وتفسد بعض القلوب تأثُّراً بذلك ؟!

* * *

نحن في زمن صار فيه الفقر عاراً، والعوز عيباً، والحاجة إثماً، والعفة فشلاً! وبات فيه الحفاظ على الصالح من موروث القيم تخلّفاً! والقفز المزيف فوق حواجز التفوق ذكاءاً، وتمرير الوسائل، وتبرير غاياتها مهارة، بل واحترافاً! وغدا الكذب والنفاق والتزلف والرياء، حكمة وحصافة وحُلّماً!

* * *

نحن في زمن يُمارس في ظلّه الزْيفُ باسم حرية الرأي، فيظلمُ، وتُزْهقُ أنفاس الحرية حين تتعالى بأسمها زخات الرفض للثابت والمتحول من القيم، وتهيمن فتنة الخُلْفِ والتطرّف على عقلانية الحوار وصوابه، فيزهق رأي الاعتدال دهساً تحت أقدام (المتنابزين) بالألفاظ و(قنابل) الجدل غير المسئول!

* * *

أجل.. نحن في زمن رديء يرى أحدُنا الخطأ بأمَّ عينيه، فيُؤْثرَ الصمت ولاينكر الخطأ، لا بيده ولا بلسانه ولا حتّى بقلبه، فإذا سئل عن صمته، اجاب بعذر (أجبن) من الفعل: قائلاً: (ما شأني بهذا؟) أو اعتذر لفاعله:

(لعل لفاعل الخطأ عذراً وأنت تلوم!)

* * *

بعد، فإنني التمس العذر عما أسلفت في حديث اليوم، وما تضمنه من بوح صريح.. فما كانت هذه الأنفاس البريئة لتغادر محار النفس لولا سطوة الزمن.. والوجدان في آن، وأزعم أنها تصور بشيء من صدق بعض أحوال بشر هذا العصر، طرحتُها لا تشاؤما منه أو زهداً فيه، رغم ماديته ورماديته.

ولا نفوراً من بعض أهله، أو تنكراً لهم، بل محاولة متفائلة.. لإيقاظ وجدان من رعِْبَ منهم كي يصلحّ من حاله ما استطاع، مستلهماً في ذلك الحكمة الربانية الخالدة، {إن الله لا يُغََيرُ مَا بِقَوْم حَتّى يُغَيِّرُواْ مَا بأنفسِهِم} صدق الله العظيم.

مقالات أخرى للكاتب