Thursday 12/06/2014 Issue 15232 الخميس 14 شعبان 1435 العدد
12-06-2014

فيما جاء في إخفاء دراهم متمشيخة الدراهم

قال الراوي: ثم دخلت سنة كذا وكذا للهجرة المشرفة، وفيها تثبت لدى المسلمين حقيقة انهيار أسعار سلعتهم الرئيسة القطران، ويسمونه «النفط أو البترول» في لهجتهم الدارجة. والقطران هو عماد حياتهم فهم لا يملكون غيره ولا يحسنون شيئا سوى أكل ثمنه. ثم مر ما يقارب عقدين من الزمن شديدين، أكلا ما قُدم لهما ما كُنز من نقد ومال، وما بذله السلطان من بناء الطرق والمشفيات وغيرها، مما كانوا يسمونه في لغتهم «بنية تحتية»، وارتفع دين الدولة وتعاظم، حتى جاءت سنة كذا وكذا فكانت بداية لسنين مباركة، ففيها انتعشت أسعار القطران وعادت للازدهار مرة أخرى.

قال ابن سالم: ودخلت تلك السنة وقد تعلم رجالات الدولة بأن الدولة لا تقدر على الإنفاق أبدا من بيع القطران وتوزيع ثمنه على الناس. فكان مما كان من الحلول، إحياء سوق تدويل المال بين الناس وعدم احتكاره، فلم يستطيعوا إلى ذلك سبيلا لجمود الفقه عندهم في تلك الحقبة، واختلاط المفاهيم عليهم. فما كان منهم إلا أنهم وضعوا سوق تدويل المال تحت وصاية متمشيخة الدراهم.

ومتمشيخة الدراهم قوم يركبون الدين فيحرمون فيه كذبا على الله ورسوله، ثم يعودون فيركبون الحيل يخادعون الله كالصبيان، وما يخدعون إلا أنفسهم، ليستحلوا ما حرموه من قبل افتراء على الله ورسوله، مقابل مكوس يأخذونها. فتراهم يقولون ما لا يفعلون، ويأخذون من التجار أجورا سرية لا يُفصح عنها مقابل إعلان طهارة التجار وأصحاب المال وتنقيتهم. فيقبل عليهم دهماء العامة يرجون بركة في التبايع معهم والاقتراض منهم، بعد أن تطهروا بشعوذة مسميات المتمشيخة وتفالهم. وتراهم يغوون الضعفاء فيورطونهم بقروض، يسمونها نقية، فهي قد تطهرت بماء دفع المكتوم لا المعلوم. ويصدرون صكوكا يزعمون بأنها تُطهر النجس وتزيل الخبث ببركة تُفال شيخ الدراهم، فما النصارى، بصكوك غفرانهم، بأبعد منهم.

قال الراوي: ومرت سنوات وقد كثرت الفوضى في سوق معاملات المسلمين المالية. وتكالب عليهم الفرنجة يريدون نهب ثروات القطران مستعينين بشيوخ الدراهم الذين ما دأبوا يشيعون كذبا بأن الفرنجة قد ارتموا عند أقدامهم يطلبون منهم الإرشاد والتوجيه لإدارة أموال الفرنجة. وأُستُخف بدين المسلمين وعقولهم. وتسابقت المرتزقة بتحصيل ما يمكن تحصيله، قبل أن تنفض الوليمة. فطُبعت الكتب في فنون معاملات الجفرة، وقامت الحلقات والدروس والمناظرات ، وحمي النقاش فيما يجوز ولا يجوز من عمليات التطهير والتنقية ومن عربون مستقصر وآخر ليس بذاك، من مسميات اقتبسوها من المشعوذين ومن هذيان المجانين، ثم جعلوا منها تعاريف لمنتجات خيالية ليس لها من الحقيقة شيء. وتراهم في مناظراتهم يختلفون في تفصيلات ويتجادلون، ويتصارعون في عالم افتراضي خيالي لا حقيقة له، وإنما هو من الكذب والخداع لإيهام الناس، حتى التبس الأمر على العقلاء وظنوا أن هناك حقيقة لبعض ما يدور. فكان حال عقلاء القوم لتصديقهم لأقاصيص متمشيخة الدراهم، أشبه ما تكون بحال الجيش الذي انصرف عن عدوه لسماعه عجوزا تتخيل تخطيط معركة وتصرف القادة والفرسان، وهي تُصرف ماء أصاب خيمتها، فظن قادة الجيش الغازي أن هناك شيئا عندهم، وما هو إلا عالم افتراضي كانت عجوزٌ مُخرفة تعيشه.

وكانت هناك جهات مسئولة على الإشراف والتنظيم ولا تأخذها في الله لومة لائم في إلزام الإفصاح عن كل مسكوت عنه فيما يتعلق بأجر أو هبة أو غيره، مما صغر منه أو كبر، إلا أن تنتهك قدسية الإخبار بما يدفع من أموال وهبات ومكوس لمتمشيخة الدراهم.

قال الراوي: وحالهم حال عجيبة في رضاهم على سرية أجور متمشيخة الحيل وعدم الإفصاح عنها. وقد كانت هذه الجهات المسئولة تصطك أسنانهم وترتعد اطرافهم وترتجف شفاهم بمجرد رؤية عباءات متمشيخة الدراهم، فهم يتضرعون: اللهم حوالينا ولا علينا. اللهم لا تسلط مشيخة الدراهم علينا، واحصر شرورهم على الضعفاء والدراويش. اللهم واحبسهم خلف أبواب معامل التنقية والتطهير، حيث يقبضون فيبصمون ويتفلون، اللهم آمين، اللهم آمين.

قال الراوي: فلحق بي فزع شديد ورعب عظيم، الله به عليم. فعدت إلى قرني السادس الميلادي، وكتمت الأمر عن شيخ الإسلام ابن تيمية لكي لا يصيبه هم وغم، فمشيخة الدراهم لا ينفكون عنه تدليسا ولأقواله تحريفا ليمنعوا الزكاة وليستحلوا عمل اليهود في الحيل. فلمخالطة أهل الكيمياء في زماننا، ممن كانوا يستحفون بعقول الناس ويوهمونهم بصناعة الذهب، لأهون ذنبا ممن حرف الدين وتلاعب به في عالم افتراضي لا وجود له كما يفعله مشيخة الدراهم. ولأهل الكيمياء أقل جرما في غشهم وأرحم وأرق من متمشيخة الدراهم، فهم لا يُصنفون الناس ولا يتلبسون بالدين ولا يجبرون الضعفاء على بضاعتهم المغشوشة.

وقد قيل إن سبب خوف هذه الجهات من متمشيخة الحيل هو مس من سحر أو جان أو عين، ولكن المسكوت الذي يُهمس به همسا في سبب عدم الإفصاح عن الأجور والمكوس التي يتقاضها كبار متمشيخة الدراهم هو أن شهبندر المتمشيخة وشهبندر التجار قد اجتمعوا على وليمة طيبة يأكلونها ويرمون من فُتاتها على متمشيخة هنا وهناك، فينطلق متمشيخة الفتات محتسبين بين الدهماء، تخدر عقولهم بأساطير الخرافات والدجل. وهكذا كان الوفاق والوئام على أحسن مايكون بين شهبندر المتمشيخة وشهبندر التجار. فالخيار بحرام أو حلال ممنوح للتجار. والحرام كله مفروض على الدهماء إلا أن يُطهر بتفال أو شعوذة من مشيخة الدراهم، فسبحان من خلق عقول الدهماء ليُسخرها وأموالها لشهبنادرة متمشيخة الدراهم، فذاك بعض ما كان من أعاجيب ذلك الزمان.

hamzaalsalem@gmail.com

تويتر@hamzaalsalem

مقالات أخرى للكاتب