Monday 16/06/2014 Issue 15236 الأثنين 18 شعبان 1435 العدد
16-06-2014

بعض مما لم أبح به .. في كتاب سيرتي!

) خرجتْ سيرتي الذاتية على الملأ مطبوعةً في جزْئها الأول قبل أقل من عقد من الزمن، بعنوان (قطرات من سحائب الذكرى) (دار العبيكان الرياض) عام 1426هـ، وأثارت حينئذٍ موجةً هادئةً من التعليقات المتباينة تعبيراً وغايةً، وطغت مشاعرُ الترحيب بالكتاب على ما عداها، فكتب عنه مَنْ كتب من أهل الفكر والقلم، وخلع عليه بعضُ كرام القوم حُلَلاً من الإعجاب معتبرين أنه إضافة جديدة إلى أدب السير الذاتية لإنسان رضعَ حليبَ المعاناةِ في صِغره (يُتماً) وحرماناً وفقراً، وكاد نموه الذهني والبدني أن يتعثر!

* * *

) ورغم ذلك كتب الله له النجاةَ والنجاحَ، ليجدَ في (قارب) الدراسة الجادة داخل المملكة وخارجها ملاذاً بعد الله يقهر به طوفان الظروف ساخنها وساكنها وملوّثها، والعبور إلى شاطئ تزيّنُ جنَباتِه عناقيدُ الحب والنجاح، ويتحوّل كل ما مضى في حياته الأولى إلى ذكرى تُوصِيه بشكر الله وما منّ به عليه!

* * *

) وفي هذا السياق، سألني سائل ذات مرة عما إذا كان هناك جزء من الذكريات لم أبحْ به بعد، وأودّ أن أبوحَ به الآن، فكان ردي التالي:

أولاً : يتعذر على راوي سيرةٍ ما أن يتذكَّر كل دقيق وجليل من أحداثِ أمسه، عسيِرها ويسيِرها.

ثانياً: نعم .. أمور كثيرة لم تبحْ بها سَحائبُ ذكرياتي رغم علمي بها، لكنني أحْجمتُ عن ذكرها، إمّا احتراماً لخصُوصيتها، أو لافتقارها إلى مسوغ معرفي أو ثقافي أو تاريخي يمكن أن يُضيفَ إلى ثقافة القارئ الكريم شيئاً يذكر، وكنت بادئ الرأي متردّداً جداً عبر عقديْن من الزمن في كتابة مذكراتي، إمّا خوفاً أن أغرق ذهن القارئ في سردٍ تفصيلي لا قيمةَ له ولا هيبة، فيعرضَ عن الكتاب بعد أن يغدوَ حقيقة، أو أن أُحرِجَ بعض من عاصر التجربة، بحجة أنني أمطت اللثام عن شيء مما يمكن تسميته بـ(المسكوت عنه) من الوقائع والأحاديث، ولو خضت اليوم غمار الكتابة من جديد لتلك السيرة لفعلت ما فعلته بالأمس دون إضافة أو حذف!

* * *

) ولقد تلقيت بعضَ الانتقادات (الودّية) عقب نشر الكتاب، فكان ردّي أنني لم أشهّر بأحد أو أتحدثْ عنه بما يسوؤه. عاتبَني واحد من ذوي القربى لأنني أوردتُ ذكر (الكفّ) الساخن من الخال سعد- رحمه الله-، لحظة وصولي إلى الطائف أولَ مرةٍ، وأنا ابنُ التاسعة تقريباً، قادماً من منطقة عسير، بعد أن (راعني) ولأول مرة مشْهدُ الدراجة العسكرية النارية (تمخر) عباب ساحة (برحة القزاز)، فأردت، بعفوية الطفولة وفضولها أن (أُشركَ) خالي في متعة المشاهدة لذلك المشهد الاستثنائي، بالنسبة لي على الأقل، فدعوتُه ليُشاهدَ ما رأيت قائلاً باللهجة العسيرية (إنق الينّي يا خال) أي (انظر الجني)، ولم يدر بخلدي لحظتئذٍ أنني ارتكبت محظوراً، فكان الردُّ (كفاً) صاعقاً وساخناً أخرس فضولي وألجم لساني!

* * *

) بقي شيء في الخاطر من تلك التجربة، بكل ما تخلّلها من إعصار الألم، والحرمان والمعاناة، هو أنني مدينٌ إلى النخاع، بعد الله، لكل مدخلاتها ومخرجاتها ولكل من شارك في صياغتها، بدْءاً من سقيي الزرَعِ في مشيّع ورعيِ الغنم في تلالها، مروراً بالترحال غير المستقر بين عدد من مدن المملكة وانتهاء بالرياض ثم أمريكا، والعيش سبعَ سنواتٍ سمان في لوس انجلوس المذهلة، خرجت منها بشهادتي البكالوريوس والماجستير في الإدارة.

* * *

) وأبرر هذا البوحَ بالقول، أنّ حصاد تلك التجربة بكل أطيافها أسْهم في تشكيلي على النحو الذي انتهيتُ إليه اليوم، وأحمد الله أنني لم أُولدْ في هذا الزمن المتْرع بخيارات العيش (المترف) رخاء وحرية شخصية، أذن لربما كنتْ عبئاً على أبَويّ، وهمّاً ملازماً لهما. كنت في ربيعي التاسع أعيش داخل أروقة نفسي تجربةَ (رجل) يحاول أن (يعرف) ما يريد، ويتخذَ في سبيل ذلك (قراراتٍ) كان بعضُها مفصلياً مثل هجرتي الأولى إلى جازان وحيداً بلا عائل على ظهر بعير ضمن قافلة تجارية، لكنها فتحت لي آفاقاً أخرجتني من (زنزانة) القرية العتيقة وطقوسها!

* * *

) ختاماً، كل ما أحلم به اليوم هو أن يشهد غدي والقادمُ من أيامي إنجازاً أفضلَ مما هو كائنٌ الآن، سواء على صعيد خدمة بلادي .. أو صعيد الحراك الثقافي قراءةً وكتابةً كي يذْكرني قومي بعد رحيلي بنزْرٍ يسير مما ذُكِرَ به قُدوتي الغالي، معالي الدكتور غازي القصيبي، طيب الله ثراه! ورمزٌ وطني شاهق كهذا .. هو بلا شك قدوة لكثيرين من أبناء هذا الجيل .. وأيُّ قدوة!

مقالات أخرى للكاتب