Wednesday 25/06/2014 Issue 15245 الاربعاء 27 شعبان 1435 العدد
25-06-2014

في البرازيل يسيل العرق.. وفي سوريا تسيل الدماء

هذه الدنيا عجيبة، وأعجب منها مفارقات ما يدور على الكرة الأرضية من أحداث. ها هو ذا حدث مهم يستقطب اهتمام العالم، ويظل محور الاهتمام مدة شهركامل. إنه المونديال حيث تدور الكرة بين أقدام اللاعبين في المدة من 12 يونيه إلى 12 يوليه في البرازيل،

في النصف الجنوبي من الكرة الأرضية. أما في نصفها الشمالي -في سوريا- فتدور منذ ثلاث سنوات رحى حرب إبادة ينفذها نظام حكم الأسد المتوحش على شعبه العريق في تاريخه وحضارته. يقال: إنه خلال المباراة بين إيطاليا وإنجلترا تسمرت عيون مليار مشاهد من جميع أرجاء الكرة الأرضية على شاشات التلفزيون لتشاهد تلك المباراة. هل جذبت مأساة الشعب السوري أنظار مليار مشاهد خلال سنوات ثلاث -قتل فيها أكثر من مائة وخمسين ألف سوري بينهم عشرات الآلاف من الأطفال والنساء- ليشاهدوا صورها المفزعة؟

من مسابقات كأس العالم تربح شركات الإعلان والقنوات الفضائية والفيفا واللاعبون وحكومة البرازيل مئات الملايين من الدولارات، أما الوطن السوري فقد خسر مئات المليارات من الدولارات من جراء تدمير دبابات النظام ومدافعه وطائراته وبراميله المتفجرة للمدن والقرى والبنى التحتية والمصانع والمستشفيات وممتلكات السكان.

على أرض البرازيل الحارة يسيل من أجساد اللاعبين العرق، وتسيل أحياناً دموعهم -من فرحٍ إن كانوا منتصرين، ومن حزنِ إن خسروا-. وفى سورية الحبيبة يتدفق سيل جارف لم ينقطع منذ ثلاث سنوات، حيث تسيل من الأجساد دماء الشهداء، ومن المآقي دموع الثكالى.

في ملاعب البرازيل تمتلئ المدرجات بعشرات الآلاف من المتفرجين الذين يشاركون اللاعبين بحماس، فيهتفون وينفعلون وربما يرقصون. وحول الوطن السوري على امتداد الوطن العربي وما وراءه من أقطار المعمورة يسترخي على الأرائك عشرات الملايين من المتفرجين الذين لا يسعهم فعل شيء غير الفرجة والحسرة والتعاطف والإشادة بشجاعة السوريين وتضحياتهم، أما المتفرجون الآخرون الذين يستطيعون الفعل والتدبير فهم قسمان: قسم يقف في جانب المجرم المهاجم، فيمده بالسلاح والرجال والخبرة، وقسم ينادي من بعيد الطرف المذبوح المدافع ويقدم له النصائح والأماني الطيبة.

في مواجهة ما يبديه بعض المتفرجين أو اللاعبين من تعصب كروي، فإن حراس الاتحاد العالمي لرياضة كرة القدم (الفيفا) يحرِّمون مجرد التلفظ بعبارات عنصرية ويعاقبون عليها.

أما في سوريا فإنه لأجل التعصب العنصري والطائفي أو لأجل كرسي الحكم تهرس أجسام البشر وتنتهك الأعراض وتشرد الأسر، ولم يفعل حراس السلام في العالم (مجلس الأمن) شيئاً لإيقاف ذلك. ما أعظم الفرق بين أخلاق الرياضة وشرور السياسة!

إلى البرازيل يَقْدُم عشرات الآلاف من الزوار من أنحاء العالم ليمتّعوا أنفسهم بمباريات المنتخبات. هم عائدون إلى ديارهم بعد انتهاء المونديال. وفي سوريا ينزح الملايين من السكان من ديارهم تاركين بيوتهم وممتلكاتهم، طالبين النجاة من الموت والحرق والتفجير، ولاجئين إلى بلاد غير بلادهم ليعيشوا في المخيمات مع اليأس والحرمان والخوف وغول الجوع. هؤلاء النازحون لا يعرفون بعد سنوات من التشريد والبعد عن الوطن متى أو هل سيعودون إلى بيوتهم قريباً، أم سيظلون مشردين.

إنها مفارقات مذهلة موجعة، تلك التي نراها تحدث في آن واحد، إذ نرى مجتمعاً بشرياً يداس بالدبابات أو يطمر تحت الأنقاض أو يشوى بالبراميل المتفجرة، فيعصرنا الألم؛ ثم نتحول إلى قناة أخرى -وكأن شيئاً لم يكن- لنشاهد كرة تداس بالأقدام، فتتقافز معها حماساً ونشوة.

كيف للنفس البشرية أن تحتمل رؤية هذه المفارقات وتتفرج عليها؟ هل لأن حال هذه النفس ومزاجها متقلبان: سريعا الاشتعال وسريعا الانطفاء؟ أم أن للنفس أحوالاً وأمزجةً متعددة، كل منها له درج خاص ينفتح حسب الموقف؟ ولماذا لا؟ ألا يحدث أنّا في نفس اليوم نحزن في النهار لموت أحد، وفي الليل نفرح لزواج آخر؟ هذا صحيح. ولكن المكلوم بفقد حبيبه لا يذهب لحفل هذا الزواج حتى لو كان لأعز أصدقائه. لأن الذي جرت عليه مصيبة فقد الحبيب هو الذي يتولد الحزن في ذاته فيسيطر على مشاعره، ولا يترك فراغاً لفرح، أما المعزِّي فإنه يحزن لحزن صاحبه، أو تقديراً للميت وأقاربه، وعمر هذا الشعور -وإن كان صادقاً- قصير. وشبيه بذلك شعور العالَم المتفرج على مأساة الشعب السوري، إنه يحزن لما يصيبهم، ولكنه لم يذق طعم المأساة في ذاته، فمشاعره مجرد تعبير قد يأخذ أشكالاً مختلفة يأتي بعدها شعور براحة الضمير، ثم تتلاشى كلما غابت عن ناظريه صور المأساة، وينصرف للاهتمام بالعرس الكروي. هذا حال المتفرجين بلا حول ولا قوة، فما بال المتفرجين الذين يمسكون بمفاتيح الفعل والتأثير؟ لن نجد عناءً في العثور على إجابة. هذه حكومة الولايات المتحدة وقفت موقف المتردد حيال اتخاذ ما يعجِّل بإنهاء المأساة. لقد كانت ترى ما يجري وتندد به وتبدي التعاطف مع ضحايا المأساة، وتمدّ الثوار بالمعدات التي تساعد على إطالة أمد الحرب، ولكنها لا تحسمها لصالح الثوار، ولم تذهب أبعد من ذلك ومن الدعوة لحل سياسي بين الأطراف. لم يكن لديها ما تفقده في سوريا. قارن ذلك بالموقف الأمريكي تجاه الأحداث الأخيرة في العراق. لقد صرح المسؤولون الأمريكان بأن ما يجري في العراق يمثل خطراً على أمن أمريكا ومصالحها، وبادرت بالفعل إلى لقاء الإيرانيين، وأرسلت طائرات استكشاف إلى سماء العراق وحاملة طائرات إلى الخليج، ولم تستبعد استخدام طائرات بدون طيار لضرب مواقع داعش. إنها داعش نفسها التي تعاون نظام الأسد في تقتيل الثوار السوريين. الحالة الثانية نعثر عليها في روسيا، هذه الدولة أمدّت -ولا تزال تمدّ- النظام الحليف المتوحش في سوريا بالأسلحة الفتاكة، وترفض في مجلس الأمن إيجاد ممرات إنسانية لإغاثة المحاصرين والمرضى والجوعى بدون موافقة النظام الحاكم، ولم تكن تبالي بقتل عشرات الألوف من المدنيين السوريين؛ لكنها في المقابل بدأت تلاحق وزير داخلية أوكرانيا قانونياً بتهمة قتل مدنيين في شرق أوكرانيالذي ينطق معظم سكانه باللغة الروسية، ويريدون الانفصال والانضمام لروسيا.

هذه هي أخلاق السياسة: كيل (المشاعر) تجاه مآسي الشعوب بمكيالين - وفق درجة المساس بالمصالح.

مقالات أخرى للكاتب