Monday 07/07/2014 Issue 15257 الأثنين 09 رمضان 1435 العدد
07-07-2014

ظاهرة التقدم إلى الخلف

نحن نحتل الآن المرتبة العالمية الأولى في استهلاك كل شيء بما في ذلك المياه، وفي نفس الوقت نحتل درجة متدنية جداً في الإنتاج. بمقاييس التقدم الحضاري والعمل الإنتاجي للمستقبل تأكدوا أن المسافة بيننا وبين المجتمعات المنتجة تزداد اتساعاً وتتمدد باستمرار لصالح الاستهلاك.

لو سألني أحدهم أيام كنت شاباًً في الثانوية العامة عن توقعاتي للمستقبل، لكنت أعطيته إجابة مليئة بالتفاؤل، ولما كانت منطلقات التفاؤل ساذجة على الإطلاق. آنذاك كانت التراتبية في الهرم الاجتماعي تبدو منطقية وعملية ومنسجمة مع الحاجات المعيشية والأداء الشخصي.

بعد الأمير والقاضي وإمام المسجد كان يأتي مدير المدرسة والمدرس والميكانيكي (كانوا يسمونه المهندس) والبناء الماهر (الأستاد) والتاجر الناجح والفلاح وهكذا، حتى تنتهي القائمة في الهرم الاجتماعي بمحدودي المردود القيمي للمجتمع آنذاك، مثل الدلال والمتسبب.

الداعية واللاعب والمطرب لم يكن لهم وجود واضح آنذاك لانتفاء الفائدة والحاجة. كانت في مرجعية القاضي والإمام والمدرس ما يغني المجتمع عن الداعية في مجتمع منسجم مع نفسه، وكان الناس قبل طفرة الدعاة أقل افتتاناً بمذاهبهم وبأنفسهم وعلى وفاق وتعايش أفضل بكثير مما حصل بعد ظهور هذه النوعيات المسيسة من الدعاة.

كمدعاة للتفاؤل آنذاك يضاف إلى التقييم المنطقي للقيمة الاجتماعية وجود انفتاح فطري على التطور وتفاؤل بالوصول أخيراً إلى بوابة الاستقرار والعلم والتعليم.

الآن وبعد مرور أكثر من نصف قرن، لو سئلت مرة أخرى نفس السؤال لقلت إنني أشعر بالإحباط، لأن هرم الأولويات الاجتماعي انقلب فأصبح الرأس هو القاع والقاع هو الرأس.

لننظر الآن كيف أصبح وضع الهرم القيمي الاجتماعي القديم. القاضي وإمام المسجد فقدا الكثير من مكانتهما الاجتماعية لصالح البيروقراطية والسلم الوظيفي، ولم تعد لهما تلك الهيبة الملتزمة عرفاً بالعدالة والتقوى والمرتبطة التزاماًً وتطبيقاًً بالواجب الشرعي.

مدير المدرسة والمدرس أصبحا مجرد حضور شكلي في المدرسة، لا ترتعد فرائص الطلاب أمامهما مثلما كان يحدث لنا في الزمن القديم. أصبح العكس هو الصحيح، فرائص المدير والمدرس ترتعد أمام الطلبة، وكلاهما يتعايش يومياً مع قلة الحيلة والخوف من الاعتداء الجسدي والمعنوي عليه داخل المدرسة.

الميكانيكي (مهندس السيارات ومضخات الماء سابقاً) والبناء الماهر (أستاد الطين) أخليا الساحة للعامل والمقاول الأجنبي ولم يعد لهما وجود لانتفاء الحاجة إليهما. بهذه الطريقة ضمرت إمكانية التطور المهني ميدانياًً بسبب الإهمال في التخطيط التنموي وفتح بوابات الاستقدام على كل فج عميق.

التاجر القديم الأمين المؤتمن أصبح الآن هامور السوق الذي نرى أفعاله القبيحة في الأسماك الصغيرة ويبقى هو غير مرئي، يتنقل طائراًً بالدرجة الأولى بين الدول لعقد الصفقات، يشتري أردأ البضائع بأبخس الأسعار، ليبيعها محلياً بأثمان ربوية. بالمناسبة يجب التذكير والإقرار هنا بأن السعودية لديها أسوأ أنواع التجار وأقلهم مواطنة على ظهر المعمورة.

الفلاح القديم ترك نخله وتمره وقمحه وبرسيمه للأفغان والهنود والباكستانيين. لم يبق في البلد سعودي واحد يفهم في فلاحة الأرض والتلقيح وجني الثمار.

إذا ً: من الذي يجلس الآن على رأس الهرم الاجتماعي؟ للإجابة أعود بالقارئ إلى تلك الفئات التي لم تكن قديماً بذات قيمة اجتماعية. الآن نحن في زمن الداعية المسيَّس والمطرب ولاعب الكرة. هؤلاء أصبحوا مشاهير المجتمع الذين يتربعون على قمة الهرم، ولا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.

- الرياض

مقالات أخرى للكاتب