27-08-2014

مرفوع القامة هواجس في طقس الوطن (*)

لعله في صباح غير مطير وغير صحو على مشارف نهاية الثمانينيات الميلادية يوم التقيت الشاعر علي الدميني وزوجته الصديقة فوزية العيوني بمطار جدة. كانا في طريقهما إلى الدمام وأنا في طريقي إلى الرياض. ولقد كان ذلك اللقاء الخاطف بالمطار بعد أمسية شعرية «فاشلة»

حاول النادي الأدبي بجدة بقيادة الأستاذ الفاضل عبدالفتاح أبو مدين إقامتها كرد اعتبار لعملية اختطاف الشعر والفكر الحر وقتها ووضعهما موضع مساومات سياسية بائسة.

وبما أن تزامن رحلتينا قد أتاح لنا فرصة لقاء راكضة وتبادل شيء من آدمية الكلام، وإن كان عبر ممرات عابرة بعد أن تعطلت في تلك الأمسية لغة الشعر والعقل وتشفت لغة المصادرة والإقصاء واتهام الضمائر والتلويح بتهمة التشكيك في العقائد أو إلصاقها, فقد كان للكلمات المتبادلة على ضيق الوقت وزنها الرمزي والملموس معا.

ففي تلك العجالة على حافة الترحال طرح أبوعادل علينا فوزية، وأنا ونفسه وجيلنا ممن صار يجري التنفير منهم حينها بنعتهم وكأنها وصمة «بالحداثيين», سؤالا اعتبرته لحظتها ولازلت سؤال المرحلة. فقد كان من تلك الأسئلة التي تغير مجرى السيل لمن أراد السقا خاصة في التواريخ التي تضييق فيها الخيارات. فلم تكن الخيارات إلا واحد من ثلاثة. فإما السير في مسار أحادي عام يتمثل في إتجاه مع الخيل ياشقرا أو في مسار يسهل فيه الاستفراد بأصحابه وعزلهم ويتمثل في اتجاه السباحة الانتحارية ضد التيار أو مسار ثالث ويعبر عنه شعبيا بالسير بمحاذات الجدار والقول أستر ياستار. وهو وضع يرقى أحيانا لمرتبة «التقية» من اتقاء شرور الملاحقة والتصنيف ويدنو لمرتبة «الشاهد للي ماشف حاجة» أي الانسحاب السالب المتمثل في لا أرى، لا أسمع ولا أتكلم.

ولقد كانت تلك الخيارات خانقة بما يكفي على الساحة الثقافية فمابالك بالساحتين الاجتماعية والسياسية خاصة بعد ما سمي بالهجمة على الحداثة أو ما أسميه مقدمة الصحوة التي بدأت باتهام أو التهام المثقفين من قبل التيار المتشدد في تماهيه تكتيكيا وقتها مع التيار الرسمي وتماهيه معها إلى أن تمادت ووصلت إلى الانقضاض بدرجات متفاوتة على كل القوى الاجتماعية التي لا تحذو حذوه في التطرف بما فيهم الحلفاء الوقتيين كما تطور الأمر وبلغ ذروته في حوادث التفجيرات المحلية نهاية التسعينيات ومطلع الألفية.

وكان سؤال الشاعر على الدميني لنا ولجيل شباب تلك المرحلة: «إلى متى لانكتب عن قضايانا الوطنية بمشتقاتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية ورؤيتنا النقدية المشروعة تجاه أوضاعنا إلا من خلال القضايا العربية المركزية أو بأساليب رمزية أقرب إلى الهلامية المبهمة أو بلغة اعتذارية، وكأن الكتابة النقدية تهمة تدفع أو شأن يجب ألا يعنينا»؟!

وفي تفكيك السؤال فهذا يعني إلى متى تحاكم الكتابة النقدية بمعيار الأحادية السياسية وتحاكم الكتابة الإبداعية بمعيار الذائقة التقليدية وتحاكم الضمائر بتهمة الخروج على العقيدة ويصادر حق الكتابة الحرة وحرية التعبير بأحادية الفكر والتوحش الاجتماعي؟

لقد استطاع سؤال على الدميني أن يضع النقاط على الجرح النرجسي بأوجاعه الواقعية التي كان قد بدأ يعيشها المثقف السعودي كمبدع وكمواطن يحمل حلم الإبداع بمعناه الأدبي التجريدي شعرا ونثرا ويحمل أمانة الكلمة في النهضة بمعنى التغيير والتطوير السياسي والاجتماعي وبمعنى التجديد الفكري والرشد العقلي. أما بالنسبة لي شخصيا فقد استطاع ذلك السؤال على بديهيته وبعد مناله وبصيرته وعلى بساطته وتعقيده معا أن يغير مجرى جرأتي من الاهتمام المحض بالشأن العربي العام وخاصة الشأن الفلسطيني إلى ضرورة ألا يكون ذلك على حساب الشأن الوطني الخاص ومشاغلنا اليومية الملحة أو المؤجلة بالمجمتع السعودي..وقد وضعني ذلك أمام تحدي ضرورة العمل رغم المحاذير الرقابية على تطوير أدواتي في الكتابة عن شؤون وشجون الوطن بغير رمزية عنوان أحد مقالاتي حينها «في الصيف ضيعت البترول» أو رمزية أم سعد الفلسطينية لغسان كنفاني التي كنت أستعيرها للتعبير بها عن كتابة تأتي في الغالب مشبعة بالغموض والغمغمة عن ما أسميته وقتها أم محمد الجزيرية كرمز للمرأة السعودية.

كما استطاع سؤال الدميني في حينه أن يحررني من الانغماس إلى ترقوتي في كتابة قصائد للحرية للتلفت والبحث عن حرية القصيدة التي جاء على إثرها ديواني (ماء السراب) مطلع التسعينيات متفلتا من المضامين الموقفية السياسية المباشرة والحادة على عكس ديواني السابق له أشهد الوطن مطلع الثمانينيات. وهذا الهروب من ضيق السياسة إلى فلوات الشعر كان مما دونته دون إشارة لوعائه الاجتماعي ولمن قام فيه بدور البطولة في شهادة سابقة كانت قد نشرت بمجلة الكاتبة نهاية التسعينيات.

لقد كانت تجربة المربد ذلك الملحق الثقافي التقدمي لجريدة اليوم وملاحق ثقافية أخرى لاحقة نهاية السبعينيات إلى ما قبل منتصف الثمانينيات ملحق اليمامة الثقافي، ملحق جريدة عكاظ، ملحق جريدة الرياض الثقافي، ملحق جريدة الجزيرة بل جريدة الجزيرة برمتها.. مهمة في رمزيتها للتعبير عن اعتلاج ذلك السؤال في حناجر مثقفي تلك المرحلة بنجاحهم وفشلهم المعتبر أو النسبي في التفوق على الحالة التي كان ينتقدها السؤال.

ولقد جاءت بعد صمت ممض لأفواه يجرحها التلجلج أو ملح الكلام الممنوع تجربة مجلة النص الجديد في رمزيتها أيضا بعد حرب الخليج الثانية, كمحاولة جادة للخروج من عنق زجاجة ذلك السؤال باجتراح طروحات لا تغرق في الغموض ولاتلجأ للتخفي خلف القضايا العربية في النقد الوطني والإبداعي ولاتقدم رؤيتها النقدية والبحثية بصيغ اعتذارية. وعلى الرغم من توقف تجربة النص الجديد بعدما يقارب عقدا من إصدارها، فقد استمر مد ذلك السؤال وربى مع الحرية الشاسعة التي أتاحتها أوعية الإعلام الإلكتروني الجديد على اختلافها.

وقد كان إنشاء على الدميني لموقع الحوار والإبداع محاولة لطرح الأسئلة بحرية أكبر تزامنا مع مستجدات روح المرحلة تقنيا وسياسيا. غير أن إقفال ذلك الموقع لم يكن على وجه التحديد هو ما أشعل شريط الذاكرة. فالحقيقة أن ما استدعى كل هذا التداعي من الذكريات التسجيلية للمحة عن مرحلة من أدق مراحل المراوحة والتحولات معا في تاريخنا الاجتماعي والثقافي من نهاية الثمانينيات لنهاية التسعينيات, هي حقيقة أن حرية الوعاء وحدها لا تستطيع أن تحل أحادية المضمون أو ضيقه أو فقدانه بوصلة الرؤية أو استبدال الأحادية السياسية بالتعدد الفكري إلا بشروط تغيير الواقع الميداني نفسه.

وهذا في اجتهادي ما استدعى لوعات والتماعات تلك المرحلة لإعادة طرح السؤال بروح تناسب أزمة الكتابة التي أراها تداهمنا من بعد تداعيات الربيع العربي.

والسؤال الجديد الذي أحاول تشكيله في محاولة الوصول به إلى صيغة محددة وواضحة في مقال لاحق مع محاولة تحليله هو, مانوع الكتابة التي نكتبها اليوم او نحاول أن نكتبها أو نعمل على الخروج عليها أو الكتابة البديلة التي نريدها مع هذا الانفتاح الشاسع في منابر الكتابة لعصرنا الحالي ومع ما نواجهه على المستوى العربي والوطني من تحديات مبرحة؟

** ** **

كلمة أخيرة

(*) للشاعر سميح القاسم/ شاعر المقاومة الغير أخير حرير الرحمة من الرحمن الرحيم، ولنا ولأجيل تأتي شعلة الشعر التي ترك فينا منتصب القامة، أمشي وعلى كفي نعشي. وللقصائد أن تنتشر فينا قامة أمل وقامة مقاومة.

(*) العنوان مستعار من ديوان الشاعر عبدالله الصيخان مع الوفاء لقيس القصائد وطيشها.

Fowziyaat@hotmail.com

Twitter: F@abukhalid

مقالات أخرى للكاتب