30-08-2014

{وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (102) سورة التوبة (1-2)

قال أبوعبدالرحمن: هذه الآية الكريمة في الذين تخلَّفوا عن رسول الله؟ في غزوة تبوك من غير عُذر؛ فلما حصحص الحق، ورجع رسول الله؟ من غزوته: لم يبادروا بالأعذار الكاذبة مِثلُ المنافقين؛ بل اعترفوا بذنوبهم، وصرَّحوا بأنه لا عذر لهم، وأعلنوا توبتهم وندمهم، وربطوا أنفسهم في السواري، وتبرأوا من حولهم وطولهم، وجعلوا الحكم لله سبحانه وتعالى ورسوله؟ في أمرهم؛ فكان من أمرهم ما هو معروف، وتاب الله عليهم..

.. قال الشيخ محمد رشيد رضا في تفسيره (المنار) في ربط الآية بما قبلها: «قوله: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ} أي وآخرون ليسوا من المنافقين، ولا من السابقين الأولين، ولا من الذين اتبعوهم بإحسانٍ لا إساءة فيه؛ بل هم من المؤمنين الذين خلطوا».. اهـ بتصرف واختصار، وروى ابن جرير وغيره: عن أبي عثمان النهدي: أنه قال: ما في القرآن آيةٌ أرجى من هذه.

قال أبوعبدالرحمن: لأنه ثبت بدليل من خارج الآية أن الله تعالى تاب عليهم، ولأن الآية عن قوم صدقوا التوبة، وأما من خلط، ومات وهو على خلطه ولم يتب، فهو الظالم لنفسه، وحكمه في سورة فاطر، وحكم هذه الآية عام للأمة؛ لأن خصوص السبب ههنا غير مؤثر في عموم الحكم.. قال الحافظ ابن كثير: «هذه الآية وإن كانت نزلت في أُناسٍ معيَّنين إلا أنها عامةٌ في كل المذنبين الخاطئين المخلِّطين».

قال أبوعبدالرحمن: بشرط الاعتراف والتوبة، وكلمة {عَسَى} ههنا حملها عدد من المفسرين على معنى الوجوب.. قال الفراء في كتابه (معاني القرآن): « عسى من الله واجب إن شاء الله»، وهكذا حملها على الوجوب النحاس في كتابه معاني القرآن، وأبوالليث في تفسيره بحر العلوم، وقال ذلك من المعاصرين سيد قطب في الظلال، ومال إلى ذلك أبوالسعود في تفسيره قولَه تعالى: {إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} إذْ قال: «وهو تعليل لما تفيده كلمة عسى من وجوب القبول؛ فإنها للإطماع الذي هو من أكرم الأكرمين إيجاب.. وأيُّ إيجاب؟!»، وتابعه إسماعيل حقي في (روح البيان)، وقال محيي الدين شيخ زاده في حاشيته على البيضاوي: «قال المفسرون: عسى من الله يدل على الوجوب، إلا أن كلامه تعالى يُنَزَّل على حسب ما يتعارف الناس؛ فالسلطان العظيم إذا التمس المحتاجُ منه شيئاً فإنه لا يُجيب إلا بما يدل على الترجي والطمع كلعلَّ وعسى؛ تنبيهاً إلى أنه ليس لأحد أن يُلزمني شيئاً، وأني لا أفعل إلا على سبيل التفضل والكرم؛ فهذا المعنى هو فائدة ذكر عسى ولعلَّ في مثل هذا الموضوع»، وقال الجمل في حاشيته على الجلالين: «قال القسطلاني: عبَّر [الأسلمُ أخبر] بعسى للإشعار بأن ما يفعله تعالى ليس إلا على سبيل التفضل منه حتى لا يتَّكل المرء؛ بل يكون على خوف وحذر»، وفي المواهب ما نصه: «واتفق المفسرون على أن كلمة عسى من الله واجبة.. قال أهل المعاني: لأن (لفظة) [كلمة (عسى) بالنسبة للمخلوق إذا نطق بها تكون من ألفاظه؛ ومادام الكلام في سياق معنى الكلمة في تفسير كلام الله فالأولى أن يُقال: كلمة (عسى) تفيد.. إلخ] عسى تفيد الإطماع، ومن أطمع إنساناً في شيئ ثم حرمه منه كان عاراً عليه، والله تعالى أكرم من أن يُطْمع أحداً في شيئ ثم لا يعطيه إياه» اهـ.. وقوله: (واجب) أي ثابت بمعنى أن ما دلَّت عليه من الترجي ليس مراداً في حقه تعالى؛ بل هو محقَّق الحصول»، وتابع الصاوي أستاذه الجمل باختصاره عبارةَ المواهب؛ إذْ ذَكر نصَّ أهل المعاني.. رحمهم الله جميعاً.

قال أبوعبدالرحمن: هذه النقول تقتضي الوقفات التالية:

الوقفة الأولى: معنى قول القسطلاني: إن كلمة عسى من الله بمعنى الترجِّي ليست مرادة في حق الله سبحانه وتعالى، وأن المَرْجُوَّ محقَّق من الله سبحانه وتعالى: إنما هو فرار من الظَّنِّ بأن الله يرجو المَخلُوقِين؛ وهذا الظنُّ غيرُ مُؤَثِّر، لأن التَّعْسِيةَ راجعة إلى المَخْلوق من جهتين: الأولى أن النصَّ خبر عن قولِ المخْلُوق وفِعْلِه.. أي رجاؤك من ربك بعسى يعني أنه غالب على ظنك أنك ستعمل من العمل الصالح ما يُحقِّق الله توتبه عليك كما في قوله تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} .. أي أنتم في أعمالِ شرٍّ موشوكون به على سخط اللهِ وعقابه إن لم يَتُبْ عليكم في دنياكم، وستأتي إن شاء الله دلالةُ عسى على معنى الإيشاك.. والجهةُ الثانيةُ أن الآية تعليم من اللهِ عبادَهُ أن يرجو ربَّهم إذا اجتهدوا في فعل الخير، وليس ذلك تَرَجِّياً من الله تبارك اسمه وجلَّ شأنه، ولهذا لم يقل ربنا: (عسى الله أن يتوب عليكم)؛ وإنما قال: {عَلَيْهِمْ} ؛ لأن التوبةَ مُعَلَّقةٌ بالاجتهاد في فعل الخير، وحُسْنِ الظن بربهم أنه سيتوب عليهم.. ولو كان النصُّ بكلمة (عليكم) لكان الخطابُ تعليماً لهم أن يرجو هم ربَّهم مجتهدين في فعل الخير، محسنين الظنَّ به.

والوقفة الثانية: يظهر لي أنَّ «عسى» كانت فعلاً ماضياً من الواوي (عسا) بمعنى اشتدَّ وقوي؛ فلما أصبح لها زيادةُ دلالة، واشْتُقَّ منها معانٍ من اليائيِّ استقلت مادةً يائية.. هذا على فرض أنها واويَّة، وإلا فإنَّ في القاموس: عسا النبت، وعَسِيَ؛ ولهذا ذكر الإمامُ ابن فارس رحمه الله تعالى أن العين والسين والحرف المعتل أصل في قوة الشيئِ واشتداده [مقاييس اللغة ص773 ].

قال أبوعبدالرحمن: كل شيئٍ اشتدَّ وقوي فقد أوشك على غايته، وقَرُب ما يُرجى منه؛ فعلى سبيل المثال إذا صوَّح النبت، واستعجل القوم الذهاب؛ ليقطنوا على المياه قرب الحواضر: قال كبيرهم: عَسِيَ النبتُ، أو عسا -بمعنى كبُر واشتدَّ-؛ فالمعنى انتظروا، فقد قرب الرحيل وأوشك؛ لأن النبت عَسِيَ وكاد يَيْبَسُ.. ثم توسع العرب فجعلوا المادة بمعنى نتيجـتِها؛ فصارت عسى بمعنى قرب وأوشك، ومع القرب يشتد الرجاء ويقوى؛ فجعلوا عسى بمعنى رَجَا، ويجب أن يكون لها ميزة على أفعال المقاربة بأن تكون لقوة الرجاء وشدته.. وقد بيَّن ابن فارس معناها الأخير فقال: « فأمَّا عسى فكلمة ترجٍّ، وهي تدل على قربٍ وإمكان «.

قال أبوعبدالرحمن: لدلالتها على القرب والإمكان أصبحت للترجي، ولأصل معناها الاشتقاقِيِّ كانت لقوة الرجاء وشدَّته؛ فهي رجاء قوي لمرجوٍّ قريب.. وذكر الفيروزآبادي أن عسى تأتي لليقين، ولا أعلم لها استعمالاً كان المطلوبُ فيه متيقَّناً بدلالتها، ولو وجِد الاستعمال لقلنا: لرجحان تحقُّق المرجوِّ جعلوها لليقين؛ ولعل مأخذهم اليقينَ جاء من دعوى أنها للإيجاب في حق الله كما مضى نقله من كلام المفسرين، وهكذا ذهب جمهور من اللغويين.قال ابن فارس: «وأهل العلم يقولون: عسى من الله تعالى واجب»، وقال الفيروزآبادي: «ومن الله إيجاب»، [القاموس المحيط 4/24].

قال أبوعبدالرحمن: إنما استعمالها للترجي، وأمَّا المتكلم إذا شكَّ في حصول المرجوِّ فذلك فِعلُ نفسِه هو، وأما عسى نفسُها فلم توضع للشك وإن وُجد الشكُّ في النفس؛ وإنما وضعت لتدل على قوة الرجاء.. وذكر الفيروزآبادي أنها تُشبَّه بكاد.. [قال أبوعبدالرحمن: هذا وارد؛ لأن القرب جزءُ معناها، والجزءُ الآخر قوةُ الرجاء.. والخلاصة أن عسى لقوة الرجاء، وليست لليقين ولا الإيجاب؛ وإنما قُرْبُ المرجو يقوِّي الرجاء، ولا يجعل الرجاء المرجوَّ حتماً، ومما اشتُقَّ منها لغةً لا نحواً الناقةُ المُعْسيةُ يشكُّ أبِها لبن أم لا؟].

قال أبوعبدالرحمن: لابد أن الُملاحظ في أصل الاشتقاق الرجاء لا الشك، ثم غلب الاستعمال في الشك؛ لأن الناقة المُعْسية أخْلفتِ الرجاء، إلا أن الشك في المادة اللغوية لا يُوجد في (عسى) النحوية، وعسى على بابها في الرجاء في استعمالات أخرى مثل: (أَعْسِ به) أي أخلق، وهو (عسيٌّ بالخير): أي خليق به، و(بالعسى أن تفعل) أي بالأحرى.. وجاء خليق وحري من قوة الرجاء.

والوقفة الثالثة: أنه لا أحد يوجب على الله شيئاً؛ لأنَّ له الغلبة والهيمنة والإحاطة وهو الغني الحميد.. وإذا أوجب على نفسه شيئاً وجب؛ لأنه لا يُخلف الميعاد، ومنزَّه عن كل نقص.. والصدقُ من لوازم كماله وأسمائه وصفاته.

والوقفة الرابعة : لو فُرض أن (عسى) للإيجاب في حق الله: لكان ذلك بدليل من خارج صيغة (عسى)، ولكان الدليل خبراً من الشرع بأنَّ الله أوجب على نفسه أن يُحقِّق الرجاء لِـمَن رجاه، ولا يوجد خبر بذلك؛ بل إن الله لا يحقق المرجوَّ أحياناً لعلةٍ في الراجي وفي عمله، أو لحكمة لا يعلمها إلا هو سبحانه.

والوقفة الخامسة: أن قوله: {إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} ليست تعليلاً لوجوب قبول الرجاء بتحقيق المرجوِّ؛ وإنما هي تعليل لقربِ المرجو من الله، وقوة الرجاء.. والغفران والرحمة متعلقان بمشيئة الله، وإنما أوجب الله على نفسه العفو والغفران للمحسن الراجح الحسنات، وأما المُقصِّر فقد يعفو الله عنه، وقد يؤاخذه بذنبه، وقد يُطهره من ذنبه في الدنيا.

والوقفة السادسة: علَّل أبوالسعود اقتضاء (عسى) وجوبَ توبة الله عليهم بأنها إطماع من أكرم الأكرمين؛ فهي للإيجاب.

قال أبوعبدالرحمن: إن تحققت توبةُ الله على العبد فذلك مقتضى كرمه، وإن لم تتحقَّق لعلمه بحال العبد ومآله فبمقتضى عدله؛ فأين الإيجاب؟.. وإنما جاء الخطاب على الإطماع وقوة الرجاء في حق التائب الصادق؛ ليحاسِب نفسه؛ فإذا صدق في الاستقامة كان طمعُه يقيناً؛ وما دامت الصيغة لقوة الرجاء ولم تكن ليقينه كانت محاسبةُ النفس مقتضى لزومياً.. ومَن علم الله صدق توبته، ومستقبلَ أمره الصادرِ عن توبته: كانت توبةُ الله عليه مما أوجبه سبحانه على نفسه؛ وإذن فالخطابُ وَعْدٌ من الله بِقَيْدِ صدقِ التوبة، وبلوغِ الغاية في فعل الخيرِ المُوصِّل إلى توبة الله، وَخْلُوِّ الراجيِّ والمَرْجُوِّ من مانع، وَحُسْنِ الظنِّ بالرب جلَّ جلاله، وإلى لقاء عاجل إن شاء الله، والله المستعان.

- عفا الله عنه -

مقالات أخرى للكاتب