21-09-2014

وداعاً.. سميح القاسم شاعر «الأرض» و«الرفض»..؟

ما كان في مقدوري أن أتجاوز وداعه وتأبينه على الرغم من أنه مات - قبل شهر - في التاسع عشر من شهر أغسطس الماضي.. خلال إجازتي الصيفية التي ربما طالت بأكثر مما يجب، وإن لم تبلغ في مداها إجازات الدكتور طه حسين الصيفية السنوية التي كان يمضيها بين أصهاره الفرنسيين في جنوب فرنسا طوال شهور الصيف الثلاثة..

أو تقترب من مبالغات أمير الصحافة - آنذاك - الاستاذ محمد التابعي في إجازاته التي كانت تتجاوز الثلاثة أشهر إلى الأربعة أو الخمسة منها أحياناً، فقد عرفته منذ أواخر الستينيات الميلادية من القرن الماضي.. عبر إذاعة صوت العرب.. والبراكين تتصاعد من كلماته والدخان يغطيها.. كقوله في أحد مزامير ديوانه الرابع (دخان البراكين) عن «وطنه» و»جرحه» فلسطين:

(من هنا،

من مَطْهرِ الأحزان في ليل الجريمة!

أيها العالم، تدعوك العصافير اليتيمة..

من هنا، من غزة الموت،

ومن جينين، والقدس القديمة..

أيها العالم تدعوك

فرد الغاز، والنابالم، والأيدي الأثيمة!

هللو يا..

........

ذات يوم

كان في غزة صبر وحنين

وفلول من أناس طيبين

ذات يوم، كان موال حزين

يشعل النكبة في كل خيام اللاجئين

ذات يوم،

كان في القدس صغار ينشدون:

راجعون.. راجعون.. راجعون!

هللو يا

كان ياما كان،

وانشقت نسور معدنية

لم تكن حاملة من آل صهيون.. إلى

صهيون - أفواج البقية!

لم تكن حاملة لحائط المبكى.. مزامير تقيه!!

يا إله المجد! ماذا حُمِّلتْ.!؟

ناراً وغازاً.. ودخانا.. وهوانا!!

يا إله المجد فاسمع

صوت شعب - يتفَجَّع

يا إله المجد.. يكفينا قروناً ما حملنا

نعم عرفته.. كما تعرفت على صنوه وتوأمه الشاعر الثوري والإنسان (محمود درويش) من خلال رائعته (سَجِّل.. أنا عربي) التي جاءتني عبر ذات المذياع.. ليستقر كلاهما في ذاكرتي. في مهجتي ووجداني.. لأتابع بعد ذلك كل ما كان يصدر عنهما من دواوين شعرية.. كانت تتلقف (دار العلم للملايين) البيروتية نشرها بكفاءة واقتدار.. لإيصالها إلى ملايين العرب المتلهفين عليها والمنتظرين لها.. في كل القارات.

* * *

لم تتح لي فرصة رؤياه، والتعرف عليه عن كثب طوال عقدي السبعينيات والثمانينيات.. فقد آثر البقاء في وطنه وبلدته (الرامة) بالقرب من حيفا ويافا والخليل ليواصل نضاله بـ(الموقف) و(الرأي) والكلمة: شعراً ونثراً.. رواية ومسرحاً حتى نافت كتبه عن الستين كتاباً.. وليصبح فيما بعد فيمن عرفوا - بواقع الاحتلال الإسرائيلي - بـ(عرب 48)، فيُدخله ذلك وهو الشاعر المقاوم العنيد للاحتلال في سلسلة من الحيرة والتناقضات المبكية: فإما «الجنسية» الإسرائيلية.. و»التجنيد الإجباري» في جيش الدفاع!! أو المغادرة لـ(بلدته) وأرضه وناسه وكرومه وزيتونه.. فآثر الصمود والبقاء بعد أن استطاع مقاومة (التجنيد) ورفضه، لينخرط في العمل السياسي وفي عضوية (الحزب الشيوعي) لأنه الحزب الوحيد الذي يضع في رأس برنامجه السياسي - كشرط للانضمام إليه - : (حق) الفلسطينيين في (العودة) إلى أرضهم ومنازلهم ومزارعهم التي تم الاستيلاء عليها بالحديد والنار ففر أصحابها بـ(حياتهم) وأرواحهم.. منها!

لقد عاش (سميح القاسم) بـ(أحلام) (العودة) والتحرير.. صابراً على تلك المكاره والأزمات حتى بلغ الخامسة والعشرين.. لتشرق منظمة التحرير الفلسطينية (فتح) بـ(عاصفتها) و(صاعقتها) فلم تسترد فتراً ولا شبراً.. لتأتي (النكسة) بالاستيلاء على الوطن كله..!

أما توأمه (محمود درويش) شاعر المقاومة الفلسطينية الأول.. وشريكه (في تأسيس «الكلمة المقاتلة» عن طريق تشييد مدرسة شعرية ثورية محكمة الأساس والبنيان)، كما قال الحزب.. فقد ترك بلدته (البرود) وآثر الرحيل والبحث عن وطن في الغربة كـ(عَمَّان) التي سرعان ما استبدلها بـ(القاهرة)، ثم استبدلها مع السادات وأيامه.. بالبحث عنه في المنافي.. في لندن وباريس، إلا أن الاثنين لم ينسيا بعضهما - فهمهما واحد وأحلامهما واحدة - بل ظلا متواصلين.. متلاحمين على الرغم من أن أحدهما في منفى والآخر في قبضة (الاحتلال).. فها هو يناديه ويناجيه بواحدة من أروع قصائده قائلاً:

(من الرامة الخائفة.. إلى البرود السالفة

إلى دمعة بيننا واقفة

تقوم على الرمل دنيا

وتسقط في الوحل دنيا

وعدونا لعنة.. يحجم الموت

وهي على رسلها زاحفة

وأنصارنا عملة زائفة

فماذا عساني أفعل وحدي

وماذا ستفعل وحدك

وقد صار لحدي مهدي.. ومهدك لحدك)!

* * *

ولكن، كان من حسن حظي.. أن أجده من بين كوكبة المثقفين الذين دعاهم الدكتور سمير سرحان - رئيس الهيئة العامة للكتاب - إلى مؤتمر ثقافي عربي في القاهرة في ربيع عام 1992م.. للتقريب بين من كانوا ضد احتلال الكويت ومن كانوا معه.. ومن كانوا مع تحريره بالاستعانة بـ(التحالف الأمريكي) ومن كانوا ضده.. لطي صفحة الماضي - بكل ما فيها - ونسيانه.. بل ودراسة مشروع حضاري ثقافي عربي يُجمع عليه المثقفون، يسبقه ميثاق شرف ثقافي عربي يرتضيه المثقفون ويتمثلوه إن اختلفوا أو اتفقوا في مواجهة القضايا التي تعرض لهم.. وقد تبنت مؤسسة الأهرام «المشروعين» أيام رئيسها الأسبق الاستاذ (إبراهيم نافع)، حيث استضافت جلساتهما في الدور العاشر من مبناها الشهير بالقرب من كوبري الجلاء، بينما تولى الدكتور سمير سرحان صياغة محاور جلسات المؤتمر، وترؤس جلساته الصباحية الجادة، التي شارك فيها كوكبة من علية مثقفي الوطن العربي من مختلف أقطاره وأطيافه: في إحدى قاعات (فندق المريديان) في قلب القاهرة.. والنيل يصطخب من حولنا بموجه وجريانه، وعلى عادة الدكتور سرحان نجم دورات معرض القاهرة الدولي للكتاب - إبان حياته ورئاسته للهيئة العامة للكتاب - فقد ملأ أمسيات أيام المؤتمر الثلاثة بـ(سهرتين): سهرة موسيقية بحتة.. من تراث الموسيقى العربية بـ(المسرح الصغير) بدار الأوبرا، وسهرة بمسرح الأوبرا المفتوح لأمسية شعرية.. للشاعر العراقي الثمانيني الكبير محمد مهدي الجواهري.

* * *

في ثاني أيام المؤتمر ومع قهوته الصباحية في فندق (شبرد) بصحبة الصديق العزيز المرحوم الاستاذ عبد الله إمام نجم مجلة روز اليوسف وأول رؤساء تحرير صحيفة (العربي) الناصرية.. كانت المصادفة تضعني على لحظة قدوم الشاعر سميح القاسم إلى بهو (الفندق) وهو يدحرج حقيبته باتجاه موظف الاستقبال لينهي إجراءات دخوله إلى الفندق ليقيم فيه طيلة بقية أيام المؤتمر.. نظراً لامتلاء (المريديان) بنزلائه من الأدباء والشعراء والإعلاميين من حضور المؤتمر.. ليخف الاستاذ الإمام للترحيب به والتحميد له بسلامة الوصول، فما إن رآه (سميح).. إلا وارتمى في حضنه سلاماً وتقبيلاً، ليصحبه إلى طاولتنا.. ويقوم بـ(التعريف) بيننا، لأراه بأناقته اللافتة ووسامته الفارطة.. لأقول له: كأنك «عمر الشريف».. لا شاعر المقاومة الصامد العنيد..!! ضحكنا.. وانخرطنا في أحاديث القضية الفلسطينية وقصص مؤتمر مدريد ولجانه التي تفرقت فوق القارات الست.. وكأن هدف (المؤتمر) هو تفريق دم القضية بين القارات..! وهو ما كان..؟!

تراشفنا قهوتنا.. المرة بعد الأخرى، وانصرفنا إلى جلسات المريديان.. على أمل اللقاء به ثانية بعد تقديمه لأمسية (الجواهري) في مسرح الأوبرا المفتوح، التي أبدع فيها الاثنان معاً: الجواهري.. بـ(روائعه) الشعرية التي كان ينشدها واقفاً من مخزون ذاكراته لا من أوراق يقرأها، و(القاسم) بتقديمه العروبي الوطني الفوار.. وقد جمعتهما (غربة الديار) داخل الوطن.. كما هي عند (سميح)، وخارج الوطن (تشيكوسلوفاكيا) كما هي عند الجواهري.. عندما ناح وبكى قائلاً (من لِهَم لا يُجارى - ولاهات حيارى/ ولمطوىٍ على الجمر - سراراً وجهارا/ طالباً ثأراً لدى - الدهر الذي يطلب ثارا).

في ختام تلك الأمسية الشعرية الفريدة.. التي لا تنسى من أمسيات القاهرة، كنت أقترح عليه إقامة أمسية شعرية له في نادي جدة الأدبي.. وقد كنت على صلة قريبة بعيدة من النادي.. فقال لي: أيمكن ذلك..؟

فقلت له: وليه.. لا!!

ولكنها لم تحدث.. وبكل أسف، ثم أعدت محاولتي ثانية.. وقد أصبحت عضواً في لجنة المشورة بـ(مهرجان الجنادرية)، التي تجتمع عادة قبل شهور من انعقاده للتفكير في ندواته واختيار فعالياته وتسمية شعراء أمسياته.. ولكن خيبتي تكررت ثانية، ولم يدع سميح القاسم.. مع أن سميح القاسم كان (ثالث) الشعراء العرب جماهيرية في العصر الحديث بعد (نزار) و(درويش).

* * *

عندما التقيته في تلك المناسبة.. كان في نضارة مطالع الخمسينات من عمره: شبابه أطغى من (كهولته).. وحرارة ودفء كلماته أعلى من وسامته، ولم يكن يخطر ببالي آنذاك.. بأن مرض السرطان سيغدر به قبل عامين من رحيله.؟!

فرغم مقاومته له.. بقصيدته الجميلة الساخرة العذبة:

(أنا لا أحبك يا موت

لكنني لا أخافك

وأدرك أن سريرك جسمي

وروحي لحافك

وأدرك أنني تضيق عليَّ ضفافك

أنا لا أحبك يا موت

لكنني لا أخافك)

.. ولكنه مات به في النهاية، وترك (ميراثاً) أدبياً شعرياً فذاً لم يتحقق لسواه.. و(قصيدة) تقول: (تقدموا.. تقدموا براجمات حقدكم وناقلات جندكم تقدموا / فكل سماء فوقكم جهنم.. وكل أرض تحتكم جهنم)، و(ابن) اسمه (وطن).. ليترأس تحرير صحيفته التي تصدر في الخليل (كل العرب).. رئاسة فخرية.

وداعاً (سميح).. وعذراً. فلم تسمح حياتانا بـ(لقاءين)..؟!

مقالات أخرى للكاتب