29-09-2014

المواجهة الأولى لوباء داعش

كان بروكست عملاقاً يقف على قارعة الطريق يختطف كل من يمر به، يمدده على سرير فإن كان أقصر من السرير مطَّه حتى تنخلع مفاصله، وإن كان أطول قطع أطرافه على مقاس السرير.. في الحالتين يموت المخطوف ولا يستفيد الخاطف!.

تلك أسطورة إغريقية قديمة تشير إلى وجود قالب فكري جامد لدى المتعصب يقولب الآخرين والأحداث المتغيرة بما يوافق فكره.

هذا ما نجده في كافة الجماعات المتطرفة التي تتأسس على فكرة تجريدية (إيديولوجيا) سابقة وجاهزة لكل الحالات تقولبها كي تتفق مع فكرتها بغض النظر عن الواقع.

بنفس تلك القولبة يتلاعب كثير من المتعاطفين مع الجماعات المتطرفة عبر التشكيك بشرعية التحالف الدولي ضد داعش رغم أنهم كانوا ضد داعش بسبب أفعاله الهمجية.. هذا التلاعب «البروكستي» يمكن رؤيته واضحاً بتوتير، حيث نجد أسماء لامعة، كتبت عندما احتل داعش الموصل وصار له امتداداً مرعباً دون رادع، بأن عدم ضربه هو مؤامرة أمريكية، لتفتيت الدول العربية، وأطلق عليها البعض مخطط «الفوضى الخلاقة»، لكن عندما ضربت أمريكا داعشاً في العراق، قالت نفس الأسماء أنها مؤامرة أمريكية تستهدف السُنَّة، لماذا تضرب داعش بالعراق ولا تضربهم بسوريا. وحين امتد الضرب إلى سوريا فنفس الأسماء أيضا قالت: إنها مؤامرة على المسلمين.. وهلم جرا. فإذا تدخلت أمريكا فهي مؤامرة وإذا لم تتدخل فهي أيضاً مؤامرة.. أي القول بالشيء ونقيضه ليتوافق مع الإيديولوجيا وليس مع الواقع!

يتم غالباً عبر تسويق نظرية «المؤامرة الأمريكية».. فأمريكا، لأنها القوة الأعظم بالعالم، صارت عند البعض وراء كل حدث سياسي أو عسكري كبير يحدث في المنطقة بمخطط مرسوم حتى لو لم تتدخل أمريكا فهناك مؤامرة منها! وصاحب «نظرية المؤامرة» يلجأ إليها دائماً لأنها تحمي إيديولوجيته غير المقنعة، ولأنها تريحه في تفسير ما لا يستطيع استيعابه بأفكاره المنغلقة..

الآن، في تويتر تجد من يتساءل بسذاجة أو بانتهازية: لماذا تضربون داعش ولا تضربون النظام السوري رغم كل جرائمه؟ وعندما استغاثت غزة بكم لماذا لم تضربوا إسرائيل؟ وكأن مواجهة كارثة يعد خطأ إذا لم تواجه كارثة أخرى، فما لا يدرك كله لا يترك جله! فتلك الأسئلة لعب على العلاقات بعشوائية، تذكِّر بعقلية عبدالرحمن بن ملجم الذي سولت له نفسه اقتراف جريمة مزقت الأمة حينها، فبعد طعنه الإمام علي كَرَّم الله وجهه، سأله: أبئس الإمام كنت لك؟ فأجابه: لا، ولكن أأنت تنقذ من في النار؟ هنا تنتفي العلاقة بين السبب والنتيجة ويغيب الواقع لخدمة تعصُّب يرى الأحداث من منظوره الفكري الضيق.

هل يحتاج الأمر لتبيان ضرورة مواجهة تنظيم داعش الهمجي الذي وصل به الأمر أن يقتل المدنيين العزل والضعفاء، ويسبي النساء والأطفال!؟ هل يوجد وضوح أكثر من ذلك لضرورة مواجهته، حتى إن الجماعات المتطرفة أدانته منذ البداية. لكن الجماعات المتطرفة بتعصبها الإيديولوجي وانتهازيتها السياسية عادت تلعب بأفكار قلة من البسطاء عندما قررت الدول ضرب داعش. مرة باللعب على العاطفة الدينية أو حتى القومية، ومرة باللعب على العاطفة الإنسانية حين تجتمع دول العالم القوية لتضرب تنظيم واحد، وكأنه بشكل تجريدي خمسين رجلاً يصارعون واحدا..

هل نحتاج لسرد آخر الشهادات الموثقة؟ «كل يوم أو اثنين، يأتي الرجال ويرغموننا على خلع حجابنا ليختاروا من يريدون. وكن النساء يسحبن من شعورهن.. وفي يوم أتى الكثير من الرجال لأخذ الفتيات. حينئذ، قررنا الهرب حتى لو أمسكونا وقتلونا، فقد أصبحنا نفضل الموت على البقاء». هذا مما قالته «عدلة» وهي امرأة إيزيدية نزحت قبل أيام لمخيم بمدينة زاخو، بعدما احتجزها مسلحو داعش لمدة 38 يوما، كما ذكرت أنها رأت مسلحي داعش يضربون النساء بوحشية ويغتصبوهن..

وتقول امرأة أخرى «كانوا يضربوننا بالأسلاك، ويجوعوننا.. وحاولوا أخذ إحدى صديقاتي... وشنقت اثنتان أخريان نفسيهما في مراوح السقف... سيبيعون الفتيات لأي شخص يشتريهن، التي تبدأ أعمارهن من التاسعة فأكثر. وبعض الرجال اشترى اثنتين أو ثلاث أو حتى خمس في مرة واحدة. هذا عار». تلك شهادات مريرة رصدها يولاند نيل من بي بي سي.

داعش ليس فقط تنظيماً إرهابياً يعمل بالسياسة أو نظاماً قمعياً يدير دولة، بل قام بخرق كامل للمواثيق الدولية، وأعلن تصميمه على تدمير الجميع، وخرج تماماً عن أبسط الحقوق الطبيعية للبشر بهمجية يندر أن نجد لها نظيراً، وأثناء كتابة هذه السطور قام داعش بإعدام علني للمحامية والحقوقية سميرة النعيمي إثر مشاركة لها على صفحتها في «فيسبوك» لأنها انتقدت تدمير الأماكن ذات الأهمية الدينية والثقافية، ليصدر بيان للبعثة الأممية في بغداد جاء فيه:

«أن داعش استهدف مراراً الضعفاء والعزل بأعمال وحشية وجبانة تفوق الوصف، وأحدث معاناة يعجز عنها الفهم...»

وإذا كان الفهم يعجز عن إدراك هذه الوحشية، فإن الدول مطالبة بمواجهتها كأي وباء حتى يتم لاحقاً فهمه. وهذا يفسر كيف انضم بسهولة تحالف أكثر من خمسين بلدا ضد داعش، مهما قيل عن أسباب سياسية أخرى. إلا أن الأهم هو وجود دول عربية وفي مقدمتها السعودية، فدورها كرائدة للعالم الإسلامي عبر وجودها بهذا التحالف يؤكد براءة الإسلام من هذا التنظيم وأمثاله، ويأتي مواكبة لتصريحات ومواقف خادم الحرمين الشريفين الحازمة ضد الإرهاب ليس فقط عسكرياً بل أيضاً فكرياً، ومنها جهوده في الحوار العالمي، بتوقيع المملكة قبل أيام مع الدول المؤسسة لمركز الملك عبد الله للحوار بين أتباع الأديان على وثيقة مبادئ المركز لـ «نبذ استخدام الدين في النزاعات والحروب باعتبار الحوار هو الطريق الصحيح لبناء السلام المستدام عبر الوصول لفهم أفضل للآخر وتعاون أكبر بين أتباع الأديان والثقافات..»

لذا عندما تم اتخاذ قرار الضربة الجوية السعودية ضد داعش قامت القيادة السعودية بإرسال أبنائها في الصفوف الأولى للمعركة، ومن ضمنهم ابن سمو ولي العهد الأمير الطيار خالد بن سلمان، ليؤكد تصميم المملكة في تلك المواجهة ودعم التحالف الدولي لمواجهة وباء داعش.

تلك هي المواجهة الأولى الضرورية لتدمير الوحش، إنما اجتثاث الجذور التي ينمو منها أمثال داعش يتطلب مواجهة أخرى هي الأصعب والأطول.. فمثل أي وباء: الوقاية خير من العلاج!

alhebib@yahoo.com

مقالات أخرى للكاتب