09-10-2014

التحوط والتكفير والغفران وظاهرة التطرف..

يشعر المرء في بعض المناسبات أن المبالغات في الوعظ الديني قد وصلت إلى أكثر مما جاء به الدين الحنيف، وقد لفت نظري خلال العشر من ذي الحجة الأخيرة ظاهرة الحث المتواصل على صيام العشر بطرق مبتكرة، مثل نشر ملصقات دعائية تقدم الغفران المقدم من الذنوب، كان من أهمها ملصق دعائي يربط صيام التاسع من ذي الحجة بالتكفير عن الذنوب لمدة تصل إلى 720 يوماً، لسنة قبل ولسنة أخرى بعد، أي تكفير بأمر مسبق، للذنوب التي سيرتكبها المرء المسلم في السنة القادمة، وهو ما يخالف الفطرة السليمة في الدين الحنيف.

واستندوا في ذلك إلى حديث للرسول علية أفضل الصلاة والسلام عن فضل صيام يوم عرفة في تكفير ذنوب السنة القادمة، لكن المفارقة الأكبر في تلك الحملة الدعائية لذلك النوع من التدين أنني أطلعت على فتوى رقم (7233) للجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عن السؤال: هل ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم صام عشر ذي الحجة؟، وكانت الإجابة أنه لم يثبت فيما نعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم صام عشر ذي الحجة، أي: تسعة الأيام التي قبل العيد..، وهو ما يجعل من تلك الحملات في موضع الدراسة والتأمل.

وهو ما يفتح أبواب الحديث أيضاً عن منهج التدين المبالغ فيه، وهل ذلك من الفطرة الإسلامية أن يتحول الوعظ إلى أشبه بصكوك الغفران أو إلى إصدر أحكام التكفير وإهدار دماء المخالفين، وقد كان من مخرجات هذا النهج انفصام المجتمع إلى إفراط في التدين أو إلى العكس، في حين كان الإسلام في زمن الرسول علية الصلاة والسلام ينافي التكهن الديني، وقد تعلمنا في الصغر أن المسلم إذا أحسن العمل طيلة حياته، ثم أساء في آخرها فلا ينفعه ذلك العمل..

انتشرت مثل هذه الحملات في المجتمع، وكان خلفها وضع بعض الأحاديث في إطار دوغمائي، يجعل من المرء قريباً من الخروج من الدين إن خالف ظاهر النص، بينما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: إني لم أومر أن أنقب قلوب الناس ولا أشق بطونهم»، وأتذكر أن حملة دعائية قد تم تداولها في السابق عن حكم إطالة الثوب، وأن ما تحت الكعبين من الإزار في النار، وكان ذلك بمثابة إعلان مسبق عن حكم آخروي، وأخرى عن سماع الأغاني شعارها «من استمع إلى طرب صب في أذنه الآنك أي: الرصاص المذاب يوم القيامة».

ويدخل في ذلك حملة سابقة ضد المرأة مضمونها أن مكانها إما البيت وإما القبر، وانهُن أي النساء ناقصات عقل ودين، وأن خروج المرأة من بيتها من دون محرم أو لغير حاجة معصية وأثام وتتكالب عليها الملائكة لتلعنها حتى ترجع، وهو ما زاد من مساحة التسلط للرجال ضد النساء، وجعلهن في موضع الآثمات أن خرجن من بيوتهن.

أحياناً أتساءل عن ما وراء الحملات الدعائية لأحكام التكفير وصكوك الغفران، وهل لها علاقة بالتطرف وقتل الناس والأبرياء كما يحصل الآن في العراق والشام، بدون الشعور بذنب، وهل يجد بعضهم العذر لنفسه في القتل أن أعتقد أن ذنبه مغفور له مقدماً، وهل لتلك الحملات التي تدين معظم أفراد المجتمع بالأثم والكبائر والعيد بالنار لها علاقة بتلك القسوة والتسلط الذي يظهر على بعض الأفراد الملتزمين بشروط التدين المعاصره، وهل يعطيهم ذلك أمر الولاية على الناس وعلى انتهاك حرماتهم ومطاردتهم، وأحياناً إهدار دمائهم، كما يحصل الآن عند بعض الفصائل المتطرفة.

وقد عُرف ذلك في تاريخ الدعوة في المجتمع بالتحوط، وكان ذلك منهجاً من أغراضه تخويف الناس وإرهابهم من خلال تضييق الفسحة بينهم، ثم تقديم جدار التحريم قريباً من الحلال، وخفض أحكام التكفير إلى مسائل مختلف عليها، كما حدث في فتوى تكفير من يدعو إلى الاختلاط في مواقع العمل والتعليم، وصولا إلى جواز قتله، وهو من الأمور الخلافية، وهو ما أثار عاصفة من الاحتجاجات والاعتراض على تلك القسوة التي تجيز للتطرف الديني أن يواصل تسلطه ضد الناس إلى حد القتل، بينما الثابت أن الرسول عليه أفضل الصلاة والتسليم لم يكفر أحداً من المسلمين.

لتلك الأسباب ولأسباب يصعب حصرها في هذه المقالة، أستطيع القول إن ظواهر التحوط والتفكير والغفران عوامل أساسية في ظهور تلك الجماعات المتطرفة، والتي وصلت إلى قناعة أن استكمال تلك الشروط اللازمة للتدين المعاصر يجعل منها خارج المحاسبة الدنيوية والآخروية، ويدفعها إلى التسلط والبحث عن الولاية بالقوة المفرطة، والله على ما أقول شهيد.

مقالات أخرى للكاتب