13-10-2014

العنصر الغائب في إصلاح التعليم

تذكرون قصة جحا عندما اشترى عشرة حمير، ثم ركب واحداً منها وعدَّها فوجدها تسعة، دُهِش وأسرع فنزل وعدها فوجدها عشرة، فقال: أمشي وأكسب حماراً أحسن من أن أركب وأخسر حمارا! العِبرة أن الأشياء التي لا نراها نعتبرها غير موجودة.

من الطبيعي في أي قضية نناقشها، أن نبدأ الاهتمام لما هو مرتبط بها مباشرة، فتصوراتنا تُبنى على ما نرصده من اتصال مباشر بالموضوع، وقد يغيب عن بالنا ما ليس مباشرا، كما يقول المثل الشعبي: «بعيد عن العين، بعيد عن البال». عندما نقول إصلاح التعليم فنحن تلقائياً نفكر في الأجزاء التي تقوم عليها العملية التعليمية بالمدرسة، أما البيت فهو الصورة الغائبة رغم ضرورتها.

في نقاشات إصلاح التعليم وهو موضوع مستمر بجميع دول العالم، تُطرح أسسه الماثلة أمام تصوراتنا، وهي كل ما يتصل بالمدرسة من إصلاح: البيئة المدرسية (المباني، الخدمات، الأجهزة التكنولوجية المتقدمة)، الإدارة المدرسية، المُدرس، النشاط اللا صفي، المنهج الدراسي.

تختلف الدول المتقدمة في ترتيب أهمية تلك العوامل الأساسية حسب أوضاعها. بعض الدول تعاني من ضعف مهارة المدرس، بسبب أن من يقبل في التدريس هم من النصف الأقل مستوى من خريجي الجامعة كما في أمريكا (نيويورك تايمز، 2000)، بينما العوامل الأخرى مستقرة، لذا تجد أن تركيز النقاشات فيها ينصب على موضوع المدرس. بعض الدول يتم انتقاء المدرسين من بين أفضل خريجي الجامعات مثل فنلندا، كوريا الجنوبية، سنغافورة (Byron Auguste. et al, 2013)، لذا قد تكثر النقاشات حول توفير أحدث الأجهزة التكنولوجية بسبب ضعف الميزانية، فينصب التركيز على هذا الجانب التمويلي.

نحن هنا لو رتبنا مواضيع النقاشات المطروحة إعلامياً لوجودنا أن موضوع المنهج يأتي في المقدمة (تليه المباني) لما له من ارتباط بمسألة التطرف، وما يتردد عن المنهج المختطف أو الخفي وتوجه بعض الشباب للجماعات المتشددة. في الواقع، المنهج لا يوضع من بين الأولويات في الدول المتقدمة، بل غالباً لا يتم التطرق إليه بتاتاً لأن هذه الدول لا تعاني من قدرة الأكاديميين المتخصصين في وضع مناهجهم ولا تخشى من جر المناهج إلى غير الأهداف المراد لها أو تضمينها مفاهيم خارجة عن سياقها المنهجي.

موضوع المنهج ليس مجاله هذا المقال، كما أن كافة العوامل المذكورة للتعليم هي أساسية لا شك فيها؛ لكن عامل البيت يكاد يغيب عنه النقاش. ثمة وفرة من الدراسات أظهرت مؤخراً الخطأ الفادح لهذا الغياب، بل أظهرت أن المدرس أقل تأثيراً في أداء الطلاب من عوامل أخرى غائبة، هي: مدى تعلم الأطفال من أهاليهم قبل الالتحاق بالمدرسة، ثم مدى تعلمهم من أهلهم بعد الالتحاق، كيف يجتهدون في منازلهم، وكيف يحفز الوالدان رغبتهم في التعلم؟ إذا كانت هذه المساهمة المنزلية ضعيفة فإن لدى المدرسة القليل لتعمله (Levtt and Dubner, 2014; Bruce Sacerdote, 2007).

الجمعية الدولية لتقييم التحصيل التربوي قامت بدراسة الاختلاف في التحصيل بين أعلى وأدنى مستوى إنجاز للمدارس في الرياضيات والعلوم في 39 بلدا، وجدت في أمريكا مثلاً، أن 64 % من الاختلافات في التحصيل من مدرسة إلى أخرى تُعزى إلى «المنزل» بما في ذلك دعم الوالدين والوضع الاجتماعي والاقتصادي، ومشابه لذلك في بقية البلدان (John Wherry, 2010). وفي دراسة أمريكية بارزة (Westat, 2001) وجدت أن المدارس التي يرتفع فيها مشاركة الوالدين حققت تحسن بمعدل 40 % للطلاب الضعيفين في القراءة والرياضيات مقارنة بالمدارس ذات المشاركة المنخفضة للوالدين.

يمكن أيضاً المقارنة من الناحية الكمية، فلو حسبنا عدد الأيام التي يقضيها طلابنا في المدارس، بعد حذف الإجازات بما فيها إجازة نهاية الأسبوع فهي حوالي 160 يوما (بين 150 و 170 يوما) حسب المرحلة الدراسية ونوع المدرسة، أي أقل من نصف أيام السنة (44%)؛ وإذا قلنا إن في كل يوم منها 7 ساعات في المدرسة أي أقل من نصف وقت اليقظة؛ فالمحصلة النهائية التقريبية هي أن 20 % فقط من ساعات اليقظة يقضيها الطلبة في المدرسة.. أي خُمس الوقت في السنة!

ومع ذلك فإن السؤال الدائم (وربما الوحيد) هو عن أداء المدرسة وليس البيت. لماذا؟ لأن عبارة «إصلاح التعليم» تستحضر المدرسة في أذهاننا كما أشير بالمقدمة. لكن حتى عندما تأتي كلمة «التربية» في مقدمة اسم الوزارة (التربية والتعليم)، فقلما تحضر التربية في المنزل، لأننا غالباً نتناول في نقاشاتنا الساخنة الجزء الذي يزعجنا في الموضوع.. فطريقتنا (المنزل) لا تقلقنا، لكن طريقة المدرسة تقلقنا..

الدراسات المشار إليها تتطرق لمجتمعات مختلفة، وتلك تحتاج لتُكيَّف وفقاً لمجتمعنا السعودي. القول إنه إذا لم يعمل الوالدان شيئا فلدى المدرسة القليل لتفعله، يثير لدينا التفكير بأولئك الناشطين في المدرسة لأهداف خارج المنهج التعليمي، وما يتردد عن المنهج المختطف (من الذين يملأون فراغ عمل الوالدين في ذهن الطالب) أو المنهج الخفي (الذي ينتقي من النصوص ما نتفق عليه ولكن يضعها في سياق مريب، أو يؤولها بطريقة تعسفية) لأهداف خارج المنهج التعليمي، ولا يرتضيها الوالدان.. فلماذا، إذن، لا يشارك الوالدان؟

الاستطلاعات العالمية توضح أن عدم مشاركة الوالدين تعزى لثلاثة أسباب رئيسية: الانشغال وعدم وجود وقت كافٍ، عدم معرفة ما ينبغي عليهم فعله، عدم إدراكهم أهمية المشاركة. نحن نعلم أن هناك قطاعاً كبيراً من الآباء مشغولون لدرجة ألا يجلسوا مع أبنائهم وبناتهم إلا في الإجازات والمناسبات، فكيف تلام المدرسة وحدها؟

خذ مثلا، مجلس الآباء الذي يفترض أن يكون حلقة وصل بين البيت والمدرسة لبناء شخصية الطالب. أغلب التقارير المحلية تذكر أن هذا المجلس فقد تماماً أهميته نتيجة غياب الآباء، وبعض التقارير ترى ذلك مبالغة فلا يزال كثير من الآباء يحضرون، أما في بعض الدول فيعتبر حضور مجالس أولياء أمور الطلاب إلزامياً بقوة القانون!

إذا كانت وزارة التربية لا تستطيع إجبار الوالدين على الاهتمام والمشاركة، فإنها يمكنها التوعية بذلك في أولوياتها الإرشادية والإعلامية واستنكار عدم مشاركتهم، فكثير منا يظن أن دور التعليم منوط بالمدرسة فقط، بينما الدراسات تقول إنه البيت أولا.. وهل ذلك يحتاج دراسات لولا عينيّ جحا!؟

alhebib@yahoo.com

مقالات أخرى للكاتب