17-10-2014

دولة المهدي ودولة الخلافة!

أصبح لدي حساسية مفرطة من مصطلح (الأمة) والمصطلح الآخر (القُطر)؛ ما ان أسمع هذا أو ذاك يرددها، ويخاطب بها الآخرين في خطبه أو أحاديثه أو كتاباته، حتى يقفز أمام عيني إما أحد الرؤساء القومجية الذين لفظهم التاريخ، بعد أن (مرمطتهم) وكشفتهم إسرائيل، ثم تحولت شعوبهم إلى فئات تتقاتل فيما بينها، أو أبوبكر البغدادي، يلف عمامته السوداء على رأسه، ويرتدي جُبة سوداء على طريقة الخلفاء، وهو يصعد درجات منبره برفق وتأنٍِ مُتكلَّف، ثم يخطب في رعيته ويقول مستحضراً الماضي: (أيها الناس ولّيت عليكم ولست بخيركم)، وما إن ينزل من منبره مزهواً بما حققه من انتصارات سريعة سارت بأخبارها الركبان، حتى يأمر بقطف رؤوس كانت قد أينعت، وحان قطافها، كما كان يقول ويفعل والي الخليفة عبدالملك بن مروان الحجاج بن يوسف، ثم يلتفت إلى أحد جزاريه ليتقرب إلى الله بقطفها.. أمّا التهمة فلأن صاحب الرأس الذي سيُقطف إما صليبي كافر، أو هو من (الطوائف الممتنعة) مُرتد، أو كردي زنديق، أو شيعي باطني خبيث، أو باغٍ على سلطة الخليفة ومتمرد عليها.

دعوني أضعها أمامكم جلية مباشرة: لا (أُمة) إلا أهل الوطن حصراً، ولا (قُطر) إلا الوطن قصراً؛ لا نقبل فيه زيادة مثلما لا نرضى فيه نقصان؛ وكل من خرج خارج هذه المحددات المعاصرة التي نتعايش ويتعايش معها كل من على الأرض (الآن) فهو يسعى إلى أن ينتهي بنا لما انتهت إليه العراق وسوريا وليبيا واليمن، وتسلط المتأسلمين الماضويين عليها، بهذا الفكر الظلامي المتخلف، القادم من تلافيف التاريخ.

الوطن، وحدوده، وسيادته، وكذلك المواطنة وقيمها وحقوقها هي التي حلت محل الأمة، ومن يرفض، وبُصر على استيراد الماضي ليفرضه على الحاضر، ويربطه بالدين، وبزعم أن الخلافة (فريضة إسلامية) بشرت بها الأحاديث الصحيحة (السند)، لا يختلف - وإن اختلف المُخرج والإخراج والسيناريو - عن أولئك الفتية البسطاء، الذين قرؤوا أحاديث عن ظهور المهدي آخر الزمان، ثم تقمصوا الحالة فأيقنوا أنهم في آخر الزمان، و(غزوا) أطهر بقاع الأرض، الحرم المكي الشريف، وبايعوا (الفتى الأشج) الذي ظنوه المهدي، بعد أن (تنبأت) به رؤاهم وأحلامهم الليلية كما كانوا يقولون، ومن هناك أعلنوا الفتى (إماماً مهدياً) كما تنبأت بذلك بعض المرويات، وطلبوا ممن حضر فجر ذلك اليوم الصلاة في الحرم أن يُبايعوه؛ هذا ما حدث قبل قُرابة الثلث قرن من الآن؛ هل تذكرون الفتنة والقتل والدماء التي تمخضت عن تلك الحادثة المريرة والتي لا أزال أتذكر تفاصيلها؟.. إنها كانت نتيجة طبيعية، ويجب أن تكون متوقعة، لثقافة تم غرسها في (يقينيات) بعض شبابنا الملتزم دينياً؛ واختلطت اليقينيات بالظنيات وكان لا بد بالتالي أن تنتهي هذه النهاية المأساوية.

إننا يجب أن نعترف أن حادثة الحرم كانت حينها بمثابة (صفارة إنذار) - لم نتنبه إليها آنذاك - بأن ثقافتنا الموروثة، والمقدسة، والتي لا يقبل البعض المساس بها، أو حتى نقدها نقداً علمياً موضوعياً، تحتوي (ألغاماً) مدفونة في منتهى الخطورة، تنتظر (فقط) متعصباً ضيق الأفق، أو انتهازياً أفاكاً مُغرضاً، لينقلها من الماضي السحيق إلى الحاضر المعاصر؛ ويختار الزمان والمكان ويتحين الفرص ليعيد تفجيرها من جديد، هذا ما حصل في حادثة (المهدي)، واحتلال الحرم، وهذا ما حصل الآن، حينما استورد أبو بكر البغدادي من التاريخ (دولة الخلافة)، ونصب نفسه خليفة، فتقاطر عليه الشباب المسلم (البائس) من كل حدب وصوب، يبايعونه، ويتمردون على أوطانهم..

بقي أن أقول: إننا إذا لم نستفد من تجربة المهدي واحتلال الحرم، ولم نستفد من تجربة البغدادي و(دولة الخلافة)، وأبقينا الباب (مواربًا)، ولم نُحكم إغلاقه، فثمة مهدي آخر سيأتي مستقبلاً، وكذلك بغدادي آخر سيتوشح بالسواد، مرة أخرى، ويرفع الرايات السود، ويرتقي المنبر، ويكرر: (وليت عليكم ولست بخيركم)، ويعلن نفسه خليفة، فالقضايا المصيرية - أيها السادة - لا يُجدي معها إلا الحزم ومن ثم الحسم والمواجهة حتى وإن كانت المواجهة مؤلمة، لا إمساك العصا من منتصفها.

إلى اللقاء..

مقالات أخرى للكاتب