03-11-2014

هل تنتهي القبيلة العربية..؟

من المقولات التي تنسب للورانس العرب: «طالما أن العرب يتقاتلون قبيلة ضد أخرى، فسيبقى القليل منهم: التافه، الجشع، البربري، القاسي، كما هو أنت». تلك رؤية عنصرية استعمارية، لكن يمكن أن نستفيد منها كما نستفيد من لدغة الأفعى.

لعل أكثر ما كان يخشاها المراقبون من اضطرابات بلدان الربيع العربي هو عودة التطاحن القبلي بعد انهيار البنية الاجتماعية الحديثة، وتجربة اليمن الجنوبي عام 1986م ماثلة للعيان. فعندما تصارع أركان الحزب الحاكم (الحزب الاشتراكي اليمني)، لاذ كل فريق إلى منطقته وقبيلته رغم أن عقيدة الحزب أممية فوق القوميات فضلاً عن القبليات.

التاريخ العربي يفيض بالصراعات القبلية، وسبق لابن خلدون أن ذكر في مقدمته أن الدعامة الأساسية للحكم تكمن في العصبية، أي الولاء للقبيلة حسب النسب.. موضحاً أنه إذا خرج النسب عن الوضوح انتفت النعرة التي تحمل هذه العصبية. فالقبيلة التي كانت في بعض المناطق العربية هي المكون الأساسي لبنية المجتمع، وفي بعضها الآخر تشكل جزءاً مهماً من التكوين الاجتماعي، كانت ذات تأثير سياسي ضخم، لكننا لم نر ذلك خلال الربيع العربي بل شاهدنا تأثيراً ثانوياً.

معرفتنا قبل الربيع العربي أن القبيلة في عالمنا العربي يمكن أن تكون عامل استقرار أثناء الفوضى كما أنها يمكن أن تكون عامل اضطراب أثناء الاستقرار.. ذلك يعتمد على مصالحها ولكن يعتمد أكثر على موقعها وقوتها في المجتمع اقتصادياً وسياسياً، اللذان يبدوان في اضمحلال، مما يعني بداية ضعف دورها الاجتماعي.

لماذا ضعف دور القبيلة الاجتماعي؟.. لأنه انتهى دورها الاقتصادي فضلاً عن دورها الحربي في ظل الدولة الحديثة. في السابق كانت القبيلة البدوية منظمة اجتماعية مستقلة اقتصادياً وأحياناً سياسياً خارج سلطة الدولة. والبداوة أسلوب معيشة نمطه الإنتاجي الترحال المعتمد على: الرعي، الغزو، أتاوة حماية القوافل؛ مما جعل القبيلة البدوية وحدة متماسكة مكتفية ذاتياً ومستقلة سياسياً. وكانت القبيلة الحضرية متمازجة مع هذا التنظيم تحالفاً أو تضاداً، لكنها كانت مرهونة لاشتراطاته. الآن كلاهما البدوية والحضرية فقدتا مصادر قوتهما التي صارت بيد الدولة. ربما لا تزال القبيلة من الناحية الاجتماعية قوية، لكن ماذا عملت سياسياً، وكيف أثرت في المسار العام لبلدان الربيع العربي؟.

في السنة الأولى للربيع العربي كانت المظاهر القبلية شبه مختفية. أحد المظاهر، مثلاً، هو إلقاء الخناجر والأسلحة من قبل المحتجين في اليمن قبل دخولهم الساحات للتجمهر أو التظاهر.. كان الشكل العام مدنياً. كما اضمحلت الوحدة المتماسكة والاستقلالية لأغلب القبائل في اليمن. مثلاً، تجد هذه القبيلة مع النظام، وجزء آخر منها ضده، وآخر محايد. فكيف يمكن الحديث عن موقف القبيلة سياسياً؟.

يبدو أن المرحلة الأولى للربيع العربي انتهت، فكل مظاهرها الأولية من احتجاجات ومظاهرات قد استنزفت ولم نعد نشاهدها، وانتقلت إلى مرحلة ثانية لم تتضح نتائجها بعد.. بعضها يتوجه نحو الاستقرار لكن أغلبها يتوجه لمزيد من الاضطرابات والفوضى وعنف دموي لا نستطيع استيعابه. ورغم الفراغ الهائل الذي أنتجته الاضطرابات مما يسهل لأي جهة أو تيار ملأه -كما فعلت الطائفية- فقد ظلت الحالة القبلية على مستواها الثانوي. لكن حتى الآن ورغم مضي أربع سنوات على بداية الربيع العربي، هناك من يرى أن ضعف القبلية مجرد وقت وسرعان ما تظهر عند الأحداث المناسبة لإثارة النعرات والروح القبلية.

فأين سيتجه المسار الحالي؟.. التجارب توضح أن التوقعات السياسية عملية صعبة أو شبه مستحيلة وقت الاضطرابات.. فالتوقع أثناء الفوضى يشبه توقعك لشكل نثار الزجاج بعد تحطمه. كل بلد من بلدان الربيع العربي كان له مسار مختلف، بينما كان كثير من التوقعات تتناوله كمسار شبه واحد. من كان يتوقع أن بلداً كالعراق تميز بالتسامح الديني والمذهبي يمكن أن يشهد معارك طائفية طاحنة؟.. صحيح أن العراق شهد نحو نصف قرن من الحكم العسكري وقمعه السياسي الشرس، وليس مستبعداً أن يعاني من تبعاته، لكن الطائفية كانت مستبعدة، بينما القبلية كانت مرجحة.. وكانت توقعات الصراعات القبلية مؤكدة في اليمن وليبيا.. لكن ظلت القبلية مشابهة لما كانت عليه من ضعف في بداية الربيع العربي.. بل إن هناك محاولات مضنية من قبل الحكومات لبعث القبلية إيجابياً من أجل الاستقرار مثل التجربة السابقة للصحوات في العراق والآن في سوريا.. ورغم ذلك فإن دور العشائر أصبح مفيداً بشكل ثانوي أو تكميلي لملء بعض الفراغات، رغم أن من بين الدول التي شهدت ثورات (ليبيا واليمن) تعد من أكثر البلدان قبلية في العالم.

قد تبدو نهاية القبيلة تطوراً إلى الأمام لكن الطائفية تطور للخلف وأكثر سوءاً. كما أن فوضى القبلية محدود في مناطقه، بينما فوضى الطائفية ممتدة بلا حدود حين تؤمن كل طائفة أنها تمتلك الحقيقة المطلقة التي يجب تطبيقها بالقوة على الجميع. أضف إلى ذلك أن القبيلة بطبيعتها براجماتية تتعاطى بمرونة مع الحلول السياسية على عكس الطائفية المتحجرة.. لذا فالقبيلة يمكن أن تكون عامل استقرار.. لكي تعود القبيلة قوية لابد من عودة تنظيمها الاجتماعي، لكن لا يمكن أن يعود التنظيم بلا عودة مصدر دخله المتأسس على الترحال، ولا يمكن أن يعود الترحال في ظل الدولة الحديثة المستقرة الثابتة الحدود.. تلك الدولة أصبحت هي الضامنة الأمنية والاقتصادية (المعيشية)، وهي المنظِمة لمؤسسات المجتمع. لقد انتهى دور القبيلة كحامي أو راعي أو ممول اقتصادي لأعضائها، باستثناء المناطق النائية المعزولة جبلياً أو صحراوياً.

حتى عندما ضعفت أو غابت الدولة في بعض البلدان العربية، لم تستطع القبيلة الحلول محلها. لا يبدو أن اختفاء الدور الكبير للقبيلة مجرد وقت، فطالما أنها لم تظهر في هذه الأوقات فمن غير المتوقع أن تظهر مستقبلاً.. لأنها لم تعد وحدة متماسكة ومستقلة على الطريقة القديمة، فهي لا تنافس على الحكم ولا تطالب بحكم ذاتي، وليس لها مصالح محددة ولا مواقف سياسية واضحة، ولا وموارد اقتصادية ثابتة تدعمها. يبدو أنه لم يبق من القبيلة سوى التراتب الاجتماعي أو التفاخر الذي قد يضمحل مع الزمن بسبب نهاية مبرراته. فهل نتوقع نهاية القبيلة العربية كما انتهت كافة القبائل في المجتمعات الحديثة..؟.

alhebib@yahoo.com

مقالات أخرى للكاتب