06-11-2014

أتوسل بالكتاب وبالسُّنة وبتوجيه الملك الصالح إلى العلماء لاتباع أسلوب ولي العهد

حديث قديم في العهد متجدد في الزمان، لصاحب السمو الملكي ولي العهد الأمير سلمان بن عبد العزيز تضمنته إجابته -حفظه الله - لسؤال حول حرية الإعلام السعودي، وكان ذلك قبل أربع سنوات في الجامعة الإسلامية. والحرية كلمة واسعة تمتد من مفهوم حرية الغاب المطلقة، إلى مفهوم الحرية الكاثوليكية، التي قصرت حق قراءة الإنجيل على رهبان الكنيسة، وأمرت بالحرق حيا لأي شخص خارج الكنيسة يُضبط وهو يقرأ الإنجيل أو يمتلكه.

فجاءت إجابة سمو ولي العهد الأمير سلمان بن عبد العزيز لتحدد معنى الحرية الإعلامية في مصطلح الدستور السعودي القائم على الإسلام. فبعد التأكيد على أن الإسلام هو دين الدولة والقرآن والسنة هما المرجع، بيّن سموه معنى حرية الإعلام حسب الدستور السعودي القائم على الشرع بقوله «إذا كُتب شيء يخالف المصلحة والعقيدة فعند طلبة العلم ومفكرينا الفرصة للرد عليه». ثم قرر أسلوبه الحواري، الذي أكد أنه دعا إليه في عدة مناسبات، فقال:»فإذا كان الذي كتب ونقد، معه حق في نقده: أنا آخذ به وأشكره عليه. وإن كان جانبه الصواب فقد أعطاني الفرصة لأرد عليه»، ثم وجه الدعوة داعيا ومُتأملا في عقلائنا أن يعطوا الفرصة لتجربة أسلوبه الحواري فقال: «فلنتبع هذا الأسلوب يمكن هذا الأسلوب يحقق شي والحمد الله ما أحد عندنا من يمنع طلبة العلم من أجهزة الإعلام».

أسلوب ولي العهد الحواري الذي دعانا لاتباعه ولتجربته، لإيمان سموه بإمكانية نجاحه هو: تقرير لمنهج الدولة الفكري وهو تفسير دستورها الإسلامي للحرية الإعلامية والفكرية. وهو الأسلوب الذي تدل عليه نصوص الشريعة وعمل الخلفاء الراشدين، وهو الأسلوب الذي قامت عليه أساسات فكر الحضارة الإنسانية، فترى مقدار انطلاق الأمة وعلوها في فضاء الرقي والتقدم الحضاري على مقدار التزامها بأسلوب ولي العهد الحواري. فهو الأسلوب الوحيد الذي يحفظ الدين ويؤمن له التجديد والتصحيح من تراكمات مدخولات وانحرافات الهوى والرأي الخاطئ. فما ضلت الأمم وظهرت البدع والطوائف الضالة إلا بتعطيل أسلوب الحوار الذي طلب منا ولي العهد اتباعه. وما حُرفت الأديان إلا بمنع الحوار. وما خلعت أمم النصارى أديانها وحرقت كتابها ورجمت رهبانها إلا ضيقا بهم بما ضيقوا عليهم بضيق فهم وفرض جهل وتقديم منافعهم وتقديس رجال دينهم وعبادة الرأي والهوى ضاربين به النقل والعقل والواقع. والدعوة لأسلوب ولي العهد الحواري هو وحده الذي يمنع من غلبة التسلط العلمي كتسلط الكاثوليكية المانع الناس من كتابهم، كما يمنع من غلبة التسلط الإلحادي المانع للناس من عبادة ربهم.

وقد أظهر اكتتاب الأهلي ودلالته الإرهاصية عمق استراتيجيات توجيهات الملك الصالح للعلماء بترك الصمت وهجران الكسل. كما أظهرت مدى أهمية الاستجابة لدعوة ولي العهد والالتزام بدستور الدولة ومنهجها التطبيقي. فها أنا أرجو العلماء للاستجابة لتوجيهات الملك الصالح ولتلبية دعوة ولي العهد سلمان بن عبد العزيز، وأكرر إعلان حاجتي وحاجة الناس للرد على أطروحاتي التي نشرت وأنشر في ربوية النقود وما يتعلق بها من زكاة وتعاملات. وهو وإن كان فيما نُشر كفاية شرعية وعقلية ومقاصدية، إلا أن الذي لم يُنشر بعد، هو أعمق تأصيلاً وأشمل نطاقاً وأظهر حجة وأقوى دليلاً. وما ذاك من فضل مني فليس عندي كثرة حفظ ولا سهر مُدارسة وطلب علم شرعي، بل لفضل دين محمد - عليه السلام - المعجز في بساطته المتجدد في زمانه، إذا ما صح تصور المتلقي ووافق فطرته التي خلقه الله عليها. فمتغيرات الاقتصاد وإن كانت قد تعاظمت في العقود الأخيرة إلا أن علمها أصبح أشد التزاما بفطرة الإنسان وأشد اتباعاً لسنن الله الكونية في السوق والإنتاج. فمن فهم علم الاقتصاد الحديث حقا في أصوله وفروعه ولم يخادع فطرته ولم يعاند سنن الله الكونية، وكان قد التزم من قبل حقا بنصوص الوحي من كتاب وسنة، سهل عليه رؤية الإعجاز التشريعي لنصوص الكتاب والسنة. ومن تأول في تحريف معاني النصوص الشرعية وخادع فطرته وتجاهل سنن الله الكونية في السوق، وكان قد غاب عنه التصور الاقتصادي العلمي التطبيقي الصحيح، باع الأساطير واقتات على الأوهام وحرف الشرع وجعل الكذب صدقا والصدق كذبا، وقلب حكمة الشرع وعدله إلى ظلم ونقمة.

وعدم الرد العلمي على ما أطرحه في عدم ربا نقودنا الرقمية، لا يفهم منه عاقل يظن بعلمائنا خيرا، إلا مُصادقة على صحته وعدم وجود أي مدخل لخلاف معتبر. فلا يُعقل بعاقل يظن خيرا بالعلماء أن يتصور فيهم النكوص عن واجبهم الديني وواجبهم الوظيفي، ولا يتصور بهم كبرا وغطرسة، ولا يُتصور بهم السكوت على باطل.

وأما الإفتاء بعكس ما يلزمه طرحي، لا يعني عدم المصادقة على صحته. فقد غلب على عُرف الفقهاء منذ فتنة المعتزلة عدم الخروج على الفتوى المشهورة الغالبة ولو كانت خاطئة، فهم يتأولون في ذلك ويقتدون بأئمة سبقوهم في ذلك. وقد خرج البخاري عن الفتوى فرُجم، وخرج بن تيمية فسجن وجلد.

ولكن البيان والتوضيح قد أصبح حاجة ماسة اليوم. فقد حُرم كثير من الناس من خير اكتتاب الأهلي وأفرز البغضاء والمشاحنات بين المجتمع. حتى أصبح نظر بعضهم لبعض الذي يحكي ما في قلوبهم من الشحناء لا يخفى على أحد. وقفز الجُهال والوعاظ ومتمشيخة المسترزقة على الدين، ليضلوا الناس عن الحق الذي أطرحه، فكذبوا على علمائنا السابقين وتقولوا عليهم، ونشروا الجهل بين الناس، وجاؤوا زورا وبهتانا كبيرا، فتحير الناس بين نص الشرع والعقل الذي أطرحه وبين تدليسات الجهال وجهالات الوعاظ الذين تلبسوا بلباس الدين فخدعوا الناس.

فلا أقل واجبا على علمائنا من إصدار فتوى مرجعية جديدة حول ربا النقود وفتوى للأسلمة المزعومة. فلا وجود لفتوى مرجعية لحيل الأسلمة. ولا وجود لفتوى مرجعية لربوية النقود اليوم. فقد زال مستند الفتوى المرجعية القديمة بزوال ثمنية الذهب والفضة التي هي ركن الفتوى وشرط شروطها. فمستند الفتوى في ربوية البنك الأهلي هو فتوى هيئة كبار العلماء قبل نصف قرن تقريبا. وهي فتوى قائمة على ربوية النقد بعلة الثمنية، فهي ركنها وشرط شروطها. وهذا مستند لم يعد قائما. فلو زالت الثمنية عن الذهب أو عن الفضة لبطلت العلة. فكيف والذهب والفضة كلاهما لم يعودا أثمانا اليوم، لا يختلف في هذا عاقل ولا جاهل. وجعل علة الزكاة علة الربا وتعليقهما بالثمنية أشد. فبزوال الثمنية عن الذهب والفضة تضيع الزكاة عن الذهب والفضة كما أضاعت ربويتهما. فإن كان هناك من أمر آخر غير الثمنية فليجعلوه مستند الفتوى وليبينوه لنا، ولا يتركون الجهال ومسترزقة الدين يخلطون على الناس دينهم، كما قلبوا منطقهم وفطرتهم فخلطوا عليهم القرض بالبيع فلسان حالهم يقول «إنما البيع مثل الربا» فحرفت معاني الوحي وكُذب على العلماء السابقين، فانتشر الجهل والسفسطة. فلا أعظم أثرا على منطقية عقول الناس إذا ما قُلبت باسم المنطق المحرف للدين.

ولذا فما أطرحه وأدعو العلماء لطرحه على مائدة ولي العهد الحوارية، لا تقتصر أهميته فقط على تمويلات البنوك وعقول الناس وفهم الدين، بل يتعدى إلى ثوابت العقيدة التي قامت عليها وحدة البلاد. فالتحريم بربوية النقد بغير نص ولا قياس صحيح اليوم، يتعدى على مقام الربوبية بتحريم ما أحله الله شرعا، بالبراءة الأصلية. فضلا عن تحريم المنصوص على حليته بذاته وهي التمويلات البنكية لقوله عليه السلام: «فبيعوا كيف شئتم». فضلا على ما يفضي إليه ذلك من تضييع الزكاة. ولا يستهان بالأمر فالانحراف في الدين يبدأ صغيرا ثم يتسع، وقد اتسع اليوم فلا يخفى على من به بصيرة.

وحق على الله أنه لا يتألى أحد على الله في حكمه وأحكامه بالتحريم والتحليل إلا ويفتنه الله به، فتعالى الله وتبارك علوا كبيرا. فالقول بربوية النقد هو تحريم ساق الأمة الإسلامية إلى فتنة فقه الحيل والتدليس. فقه معشر يهود الجالب لسخط الله باللعن والمسخ. فقه يُضحك الأمم على أمة محمد عليه السلام. أمة تكذب على نفسها ثم تصدق كذبتها. فأصبحت لا تفرق بين قرض وبيع، فتزعم أن دينها يحرم ظلم الفقير في ريال بريالين وهي تستحسن ظلمه بعشرة ريالات، في عقود بتعاريف خذرفة كخذرفة الكهان، لا معنى لها. كتنزيلهم الصك بمنزلة ليست هي بملكية ولا دين بل منزلة السبهبلة سموها مشاركة في إيراد! عقود تعيق رقابة الدولة لنظام السوق وتمنعها من الحماية المالية للمستهلك. عقود تُفسد السوق بما فيها من التدليس والغبن والضبابية بتغير مسميات وتنزيل ألفاظ على غير معانيها. عقود تُلغي حق الملكية فتجعل حق الملكية مجرد هبة متصدق أو منة متكرم. عقود تهيئ تصادما قانونيا مستقبليا بين المقترض والمقرض عند أي تغير لحالة الاقتصاد، وتخبئ صداما اجتماعيا عند أي أزمة اقتصادية. عقود بمضاربات سوقية لتحليلها «بتيوس مُحللة»، تُفرض على المواطن كُرها دون التاجر فبأي حق يُحشر المواطن جبرا في قوله عليه السلام: «لعن الله المُحلل والمحلل له». عقود يتبرأ كاتبها المتمشيخ مما فيها بعبارات ملتوية، وتورط المواطن عند ارتفاع الفوائد أو تغير الأسعار فتضع المؤسسة في ورطة مواجهة البنوك. عقود تُدفع فيها أجور ضخمة ثمنا لتمرير ما يخالف الدين، ويزعم أنها تُسجل كلفتها في محلها الصحيح ضمن التسويق والإعلانات والعلاقات العامة. أجور يُخفونها على الناس لكي لا تنكشف غشاوة أعينهم، ويحافظون على استمرار سريتها بإشعال صراع المنازعات والمشاحنات بين أفراد المجتمع فيخرجون أنفسهم منه، فقسم ورع قد حرم من الخير وقسم نال الخير بأكل الربا.

وأقول: إن زوال ثمنية الذهب والفضة قد ألغى صلاحية الفتوى المرجعية لربوية النقود التي نص عليها قرار هيئة كبار العلماء والمجمعات الفقهية. فالقول بربوية النقود قول بلا مُستند شرعي ولا قانوني اليوم. فإن لم يكن هناك من رد على طرحي فلا أقل من فتوى جديدة مؤصلة بالنص الشرعي، تبين للناس حكم تمويلات البنوك وأحكام الأسلمة المزعومة.

فالصمت عن طرحي رغم تكرار طلبي وشدة حاجة الناس وخوض الجهال فيه ووضع البنوك والاقتصاد وفقه الحيل يدخل في عموم صمت العلماء الذي أشار إليه الملك الصالح.

وعدم بحث فتوى جديدة تعتمد المستجدات التي ألغت مستند الفتوى القديمة يدخل في عموم مما أشار إليه الملك من كسل العلماء. وقد دعانا ولي العهد لطعامه على مائدة الحوار وطعام الكريم شفاء، فلنجب الدعوة إن كنا كراما، فإن الكريم إذا دُعي لطعنة بليل أجاب، فكيف والدعوة لحوار دين ودنيا ووحدة وطن وتعاطف عشيرة. فهذا توجيه الملك الصالح، وهذه دعوة ولي عهده الأمين لاتباع أسلوبه الحواري أتشفع بهما عند العلماء، وبين يدي الكتاب والسنة أتوسل بهما إليهم للاستجابة لتوجيهات ملك صالح شفوق ولدعوة كريمة من ولي عهد أمين صادق.

hamzaalsalem@gmail.com

تويتر@hamzaalsalem

مقالات أخرى للكاتب