16-11-2014

ذكرى سقوط جدار برلين .. ودرسه العظيم؟

احتفلت (ألمانيا) في الحادي عشر من هذا الشهر - نوفمبر - بـ(ذكرى) مرور خمسة وعشرين عاماً على سقوط (جدار برلين) وهدمه.. وإزالته (مادياً) من على سطح الأرض، و(سياسياً) من (ذاكرة) الألمان وتاريخهم الوحدوي العتيد الذي يمتد إلى أواخر القرن التاسع عشر.. عندما تم (توحيد) ألمانيا على يد زعيمها التاريخي (اتوفون بسمارك)، ولها الحق في أن تحتفل بإزالة جدار الذل والمهانة والتقسيم..

ليس لـ(إزالته) فقط - ولكن لأنّ إزالته - فتحت الباب واسعاً وسريعاً أمام إعادة (توحيد ألمانيا) مجدداً.. بعد خمسة وأربعين عاماً من تقسيمها إلى قسمين (شرقية) و(غربية)، وتقسيم عاصمتها التاريخية الخالدة الرائعة (برلين) إلى أربعة أقسام: قسم (سوفييتي) اشتراكي ماركسي يتبع (ألمانيا الشرقية) إدارياً وسياسياً.. ويتواصل معها جغرافياً، وثلاثة أقسام رأسمالية (أمريكي وبريطاني وفرنسي).. يتبعون (ألمانيا الغربية) سياسياً ولا يتواصلون معها جغرافياً.

وقد كان جميلاً أن تلقي (عاملة) الأمس بأحد مصانع برلين الشرقية و(رئيسة وزراء) اليوم - من عام 2005م - المستشارة أنجيلا ميركل خطاباً.. تحت أضواء تلك السبعة آلاف فانوس التي غطت أرض الاحتفالات وأضاءت سماءها.. استهلته أجمل استهلال عندما قالت (لقد أظهر «سقوط الجدار» أننا نملك القوة لتحديد مصيرنا وتحسين أوضاعنا)، و(أنّ الأحلام يمكن أن تتحقق، وأن لا شيء يجب أن يظل على حاله.. مهما كان حجم العراقيل التي قد تبدو ماثلة).. واختتمت خطابها أروع ختام عندما قالت عن سقوط الجدار وزواله.. بأنه (كان انتصاراً للحرية على العبودية، ورسالة ثقة للأجيال الحالية والقادمة.. بأنه من الممكن تحطيم الجدران. جدران الديكتاتورية والعنف والأيديولوجيات)..!! لتبقى «رسالة» الخطاب لشعوب الأرض وأُممها.. عندما قالت (يجب أن يعطي نموذج النهاية المفاجئة للحائط.. الناس في أوكرانيا وسوريا والعراق وغيرها من دول العالم مزيداً من الثقة)..!!

* * *

كان من حظي السعيد في تلك الأيام من شهر نوفمبر.. أن أكون من بين أوائل (الزائرين) لـ(جدار برلين) فوراً أو بعيد سقوطه بأيام.. أو (المهنئين) بسقوطه.. كما أسمتهم الصحافة الألمانية آنذاك، وقد كانوا بمئات الآلاف وربما أكثر من عشاق ألمانيا وتاريخها و(المنبهرين) بعظمة خروجها من معاهدة الذل والعار والانكسار (معاهدة فرساي) بعد الحرب العالمية الأولى.. والباكين على هزيمتها وتقسيمها بعد انتصاراتها الساحقة في أوائل سنوات الحرب العالمية الثانية، ومن ثم تقسيمها إلى (ألمانيتين)، وعاصمتها إلى (أربعة) أقسام.. حيث استمر تدفق الزوار أو المهنئين على موقع (الجدار) بقية شهور ذلك العام.. وإلى أن تم الإعلان عن (إعادة توحيد) ألمانيا بعد أقل من عام من سقوط (الجدار) في الثالث من أكتوبر من عام 1990م، وفي أيام مستشارها المحظوظ (هيلموت كول).. الذي غدا في أعين الألمان وكأنه (بسمارك الثاني).. أو بسمارك (الجديد) الذي أعاد توحيدها ثانية وبعد قرن من الزمان.. كما فعل (بسمارك) في عام 1890م!!

فقد شاءت صدفي السعيدة أن أكون في زيارة عمل آنذاك لمدينة (دوسلدورف) الساحرة للاطلاع على المستجدات الطباعية في معرضها السنوي الأشهر على مستوى العالم (معرض دروبا)، وقد أمتعتني كما بهرتني (دوسلدورف) بموقعها النهري على (الراين) وقصورها الشامخة وياقاتها البيضاء ومكاتبها الساهرة إلى منتصف الليل، وبمنطقتها التاريخية القديمة المعروفة عند الألمان والسائحين بحد سواء بـ (الالدشتات) التي كنت أتردد عليها كل مساء.. إلى أن دوّى خبر سقوط (الجدار) - في التاسع من نوفمبر -، كما دوّى من قبل خبر (جاجارين) السوفييتي ورحلته الفضائية الأولى إلى (القمر) في مطلع الستينات، مع أخبار تدفق مئات الآلاف من البرلينيين الشرقيين.. إلى برلين الغربية، ليجدوا أشقاءهم من البرلينيين الغربيين في استقبالهم بـ(الزهور) والورود والهدايا، والمطاعم والمقاهي المجانية التي فتحت أبوابها لهم.. وبـ(مائة فرنك) تُنقد لكل عابر لـ(الجدار) من الشرق إلى الغرب، فقد استقبل البرلينيون الغربيون أشقاءهم الشرقيين.. بشوق وحرارة وابتسامات ودموع وكأنهم عائدون من (المنفى) وليس من النصف الشرقي لمدينتهم (برلين)، ليتحرك في داخلي فضولي الصحفي وشوقي التاريخي القديم لرؤية (برلين) التي أحببتها - سماعاً قراءة عنها - وفرحت لانتصاراتها وبكيت لهزيمتها وانتحار زعيمها الفذ (أدولف هتلر).. لأجد نفسي بين عشرات العشرات من الزائرين والسياح أو (المهنئين) على طائرة (الإير فرانس) المسموح لها وللطيران الأمريكي والبريطاني.. حتى تلك الأيام.. بـ(الطيران) وحدهم إلى (برلين)، أما طيران (العدو)!! الألماني الغربي.. فغير مسموح له..!! ليخبرنا الطيار الفرنسي بعد أقل من ساعة بأنّ (الجدار) الذي تم اجتياحه وتكسير أجزاء منه قد أصبح على يميننا، لتتدلى عيون الركاب جميعاً وقد ازدحموا على نوافذ الطائرة حتى بدأت تهتز.. لأرى (الجدار)، الذي بدا مهيباً رهيباً وهو يتلوى بلونه الأبيض على الحدود الفاصلة بين (الألمانيتين) الشرقية والغربية، والبالغ طوله مائة واثنين وخمسين كيلاً.. خمسة وأربعون منها داخل (برلين) نفسها.. والبقية على طرفيه.

* * *

لقد كان (الجدار) أو (السور) أو (حزام الموت).. وكلها أسماء أطلقت عليه.. وكأنه سوط عذاب يتلوّى بين الحدائق والمنازل والعمارات والشوارع والميادين.. أو (حد سيف) قُطّعت به أوصال المدينة ومهج أبنائها، وقُتلت به.. أحلامها وطموحاتها، لكن البرلينيين الشرقيين الذين صبروا على ذلّه ومهانته لهم ولكبريائهم المعروف.. ثلاثين سنة، كسروا قيود الخوف في لحظة ليتلاقوا استجابة لدعوة أدبائهم وفنانيهم لـ(مؤتمر) حول الحرية والصحافة وحقوق الإنسان عند (الجدار) من جهته الشرقية في الرابع من نوفمبر.. وقد لبّاه أكثر من نصف مليون ألماني شرقي، لترد عليهم حكومة رئيس ألمانيا الشرقية (إريك هونيكر) في السابع من نوفمبر بـ(الاحتفال) بعيد قيام ألمانيا الشرقية الرابع والأربعين!! ليسيل في التاسع من نوفمبر الألمان الشرقيون كالنهر الجارف بعشرات الآلاف صوب (الجدار) وفوقه لهدمه وإزالته.. حتى زال، وتدفق أبناء برلين الشرقية.. نحو نصفها الغربي ليقيموا أطول ليلة فرح عرفها تاريخهم، لتبقى في ذاكرتهم بعد ذلك أيام وتواريخ لا تنسى ولا تنمحي: الثاني من مايو 1945م.. يوم أن تم احتلال (برلين) عاصمة الرايخ الثالث الألماني من قِبل الحلفاء الأربعة، وتقسيم ألمانيا إلى قسمين (شرقي وغربي)، والسادس من سبتمبر عام 1948م.. يوم أن تم تقسيم (برلين) إلى أربعة أقسام، والثالث عشر من أغسطس 1961م.. يوم أن بنى الاتحاد السوفييتي (الجدار) أو السور برغبة ألمانيا الشرقية ومباركتها، والتاسع من نوفمبر 1989م.. يوم أن سقط (الجدار)، والثالث من أكتوبر 1990م.. يوم أن تم الإعلان عن (إعادة) توحيد ألمانيا من بوابة (براندنبرج) التاريخية نفسها.. التي تم عندها إعلان (تقسيمها)..!

* * *

لقد كان سقوط (جدار برلين).. درساً تاريخياً أممياً لشعوب تقرأ وتفهم وتعي، وكان خطاب المستشارة (أنجيلا ميركل).. في (ذكرى) سقوطه - تذكيراً لمن نسي من شعوب الأرض، بأنّ الشعوب هي القادرة وحدها ومهما كانت ظروفها على صناعة وصياغة إرادتها.. وكما فعل البرلينيون الشرقيون في التاسع من نوفمبر، وهو تذكير يأتي في موعده عربياً.. ودول ما سمي بـ(دول ربيع الحرية) - ما عدا.. مصر - ما تزال تتقاتل وتتصارع على كراسي الحكم بـ (الدبابات) والطيران وقذائف الـ(آر بي جي).. كما هي حال (ليبيا) بعد سقوط (القذافي)، أو تتناحر وتتنابذ حزبياً وتذهب ريحها.. كما هو الحال بين (السلطة الفلسطينية) و(حماس)، اللذين ما اصطلحا يوماً إلا ليختلفا شهراً، وما اتفقا شهراً.. إلا ليختصما أعواماً، أو لتشهر سيف (الانفصال) أو (المذهبية).. كلما دارت الأمور على غير هواها، كما هي حال (اليمن) مع (جنوبه) ومع (حوثييه)..!!

لكأنّ الشعب الألماني وأبناءه وأحزابه وساسته يختلفون عن من ذكرت من الشعوب العربية أو غيرها..!!

فهم يحملون ثقة بأنفسهم وقدراتهم.. تكاد تكون متفردة بين شعوب العالم، ولعل (الطرفة) التي يرددها العالم عن أنّ (السعادة هي مع مهندس ألماني، وطباخ فرنسي، وبنكير سويسري وحبيبة إيطالية).. فلا يضحك لها الألمان لأنها (تقرير حال).. هي التي تقدم الجواب... لاختلافهم الرائع والعظيم..؟!

مقالات أخرى للكاتب