17-11-2014

استحالة البحث العلمي في المجتمعات الخليجية

المفترض أن يسبق السؤال عن غياب البحث العلمي المفيد في المجتمعات الخليحية سؤال آخر. لماذا تفشل المجتمعات الخليجية في مهارات التعامل مع ما تشتريه وتستورده من الإنجازات العلمية والتقنية من الخارج؟. من غير المحتمل أن تخرج أبحاث علمية جدية من مجتمعات لا تعرف حتى كيف تستفيد من المتوفر في السوق العالمي من الإنجازات العلمية والتقنية.

لنبدأ أولا بالطب، لأن الجماهير تعشق الكلام في الطب وتظن أن الأطباء صنف متميز من العقول البشرية. من أهم فروع الطب قسم الطب الوقائي، أي تلك العلوم الطبية التي تتعامل مع احتمالات الأمراض قبل حدوثها، ومع بداية الحالات قبل تكاثرها ومع قطع الطريق على العلل قبل انتشارها. في هذا المجال يدخل البحث العلمي التجريبي للقاحات والأمصال. الأمر لا يحتاج إلى تأكيد على الفوائد الصحية على المستوى الوطني والعالمي، بالإضافة إلى التسويق الاقتصادي. المجتمعات الخليجية مفتوحة من الجهات الأربع على كل أمراض العالم، تستورد وتصدر الأمراض، لكنها بكل إمكاناتها لا تملك مركزا واحدا يتمتع بسمعة عالمية في بحوث اللقاحات والطعوم وتصنيعها. السعودية ببواباتها المفتوحة على الاستقدام والتسلل وعلى مواسم الحج والعمرة خير مثال على هذا التقصير، أو لنقل بصراحة هذا الفشل العلمي. 60% على الأقل من ثروة الإبل في الخليج تحمل فيروس كورونا، وهذا حقيقة علمية مثبتة، ولكن المجتمعات الخليجية تنتظر الفرج من أبحاث الدول التي ليس عندها من الإبل ولا خف بعير.

مثال آخر، جميع الأدوية التي تصنعها وتسوقها شركات الأدوية العربية ومنها الخليجية، لا تملك براءة اختراع دواء واحد. كل إنتاجها الدوائي يتعامل بالانتظار والتربص حتى ينتهي حق احتكار التصنيع لأي دواء سبق إنتاجه في دولة أجنبية، ثم تتسابق الشركات الدوائية العربية على صناعته وتسويقه، وبعبوات رديئة الجودة والمنظر.

خلصنا من مثال الطب، ولننظر في مجال الرقائق والإلكترونيات، والتي أكثرها انتشارا أجهزة التواصل المعلوماتي. الأكيد أن المستعمل الخليجي خصوصا والعرب عموما لا يستعمل أكثر من 10% من الخدمات التي توفرها هذه الأجهزة. الأكثر تأكيدا هو أن كل مستعمل تعدى سن الأربعين لا يجيد من استعمال الهاتف اليدوي سوى استقبال المكالمة والرد عليها. المجتمع الذي لا يعرف كيف يستخدم جهازا حديثا غالي الثمن بكامل إمكانياته، لن يحقق أي بحث علمي في المجال التقني، لا في الجامعة ولا الجامع ولا المعهد ولا في دكاكين الأجهزة الإلكترونية.

انتهينا من الأمثلة، وهي من الاتساع بحيث لا تغطيها المجلدات. قال لي مرة زميل ألماني سبق أن عمل في السعودية، أنتم السعوديين لا تتعاملون مع الحياة بجدية، وسألته كيف؟. قال إن تعاملكم مع الوقت يدعو للسخرية، وتعاملكم مع الملابس والهندام والمظهر الخارجي يدعو للضحك، وتعاملكم مع الماء يدعو للبكاء، أما تعاملكم مع الأرز واللحم (قالها هكذا ولم يقل مع الأكل) فيدعو إلى الاحتقار، ثم نظر في وجهي وسأل هل أهنتك يا صديقي؟ أنا آسف. أجبته وقد جف حلقي، لا أبدا فأنا أعرف ذلك قبل أن تقوله، ولكن قل لي ما دخل الملابس في الموضوع؟. قال الألماني: إن طريقة الهندام بحد ذاتها عند كل شعب ليست هي التي تحدد طريقة التفكير ولا تملي طريقة التعامل مع الحياة، لكنها تعطي مؤشرات ودلالات على ذلك التفكير والتعامل. خذ مثلا الأزياء الوطنية الأفريقية، بألوانها الفاقعة وأطوال أمتارها وعدد تلافيفها، إنها ليست عملية، وتدل على أن مستعمليها لا يتعاملون مع الحياة بطريقة عملية، ولذلك نراهم يموتون من العطش على بعد كيلوميترات قليلة من ضفاف الأنهار.

سألته، وما دخلنا نحن في الملابس الأفريقية؟. قال أعطيتك مثالا من بيئة أخرى عن دلالات الهندام على طريقة التفكير، وأنتم في السعودية تتعاملون مع المظهر الخارجي بنفس الطريقة. ملابسكم ليست هي التي تشكل طريقة تفكيركم، ولكن طريقة تفكيركم هي التي أوجدت لكم هذه الملابس، وهي تدل على طريقة تعاملكم مع الحياة والمواد والوقت والبيئة. شكرته على صراحته وقلت أحتاج إلى وقت للتفكير في كلامك.

الخلاصة: يتوفر في البيئات الخليجية مئات الجامعات والمعاهد وما يسمى مراكز الأبحاث العلمية التي يعمل فيها آلاف الأساتذة (البروفسورات تجاوزا) ولكن نتائج أبحاثهم لا تحقق عوائد علمية تطبيقية، وأغلبها يدور في عالم الإحصائيات والمقارنات وتحليل البيانات النهائية في آخر العام. البحث العلمي بمعنى التجديد (INNOVATION) أو الاختراع (INVENTION) لا وجود له. الحياة الاجتماعية الخليجية تتعامل مع الحياة بطريقة لا تسمح بأبحاث علمية جادة.

سوف أحاول في المقال القادم الكلام بطريقة مبسطة عن شروط البحث العلمي.

- الرياض

مقالات أخرى للكاتب