20-11-2014

الطريقي ووايت: فارسان وطنيان بلا أوسمة شرف

استهوتني شخصية عبد الله الطريقي - رحمه الله - التي اكتشفها أول وزير في الدولة السعودية, واستثمر في تعليمه أول مؤسس للدولة السعودية الثالثة, وعينه أول ملك من أبناء المؤسس، كأول وزير للبترول، وعزله أول مؤسس للدولة السعودية الحديثة.

الطريقي رجل كرهه الأمريكيون بما أحبهم فيه. درس عندهم وتزوج منهم وسكن معهم، وأعملهم لديه ولم يعمل معهم. أحب الطريقي في الأمريكيين جديتهم وعلومهم وفطنتهم وتقدمهم وقدرتهم على بناء الثقة العجيبة لدى الآخرين، ولو بتكلفة عالية يدفعونها. كما تعلم الطريقي منهم أن تكلفة بناء الثقة ليست عبثا، إنما هي تكلفة لتحصيل أقصى الأرباح الممكنة من ورائها، ولإطالة عمر الإمبراطورية الأمريكية.

فهم الطريقي سياسة الإمبراطورية الحديثة، التي خالفت سياسات الإمبراطوريات الهالكة. فالسياسة الأمريكية قائمة على تحصيل أقصى الأرباح الممكنة، مع العمل على منع خروج أي أمة تنافس هيمنتهم، لا سياسة إفقار الأمم التي اتبعتها الإمبراطوريات السابقة. فغنى الشعوب الأخرى ينتهي نفعه لهم، ويعينهم على تحجيم أي أمة قد تنافسهم حاضرا أو مستقبلا. وكان الطريقي مدركا تماما للحاجة الضرورية إليهم ولعلومهم المتقدمة، ولكنه لم يفت عليه ذكاء الأمريكان في تسخير ما بنوه من الثقة والتقدم لاستغلال المفاوض من الشعوب الأخرى. فأحب الطريقي واقعيتهم في تعاملهم الإنساني المفطور على حب الذات أولا، والكاره للظلم بلا حاجة. وهو الذكي الفطن فلهذا سهل عليه مفاوضتهم، إيمانهم بلغة العقل وحق تحقيق الذات. فتعامل معهم بمبادئهم وبما أحبهم فيه. ففاوضهم بلغتهم العقلية والتجارية والسياسية، فغلبهم، فانتفض على استغلالهم للنفط السعودي فأجبرهم على مناصفة الأرباح البترولية، لا على دفع شلنات مقابل طن بترول. وانتزع الطريقي منهم قيادة السياسة البترولية، واستعان على ذلك بإنشاء منظمة أوبك ثم بوضع خطة الطريق لشراء أرامكو. وطبق الطريقي سر الهيمنة الأمريكية العالمية، فقرر تحقيق استقلالية أرامكو بسعودتها على أساس التكنوقراطية لا المحسوبوقراطية ولا الشليوقراطية. وأدت انتفاضة الطريقي التفاوضية العلمية إلى انتفاضة دول الخليج بعد ذلك على الاستغلال الأمريكي لحقوق البترول. فلطالما قادت السياسة السعودية سياسات المنطقة. فكرهه الأمريكيون بما أحبهم فيه، فلا تجد له ذكرا في أرامكو ولا في الأفلام الوثائقية العالمية.

ولطالما تساءلت: لم أُغفل الطريقي من تاريخ أعلى رجالات الوطنية السعودية. فالدولة السعودية من أوفى الدول لرجالها، ولم تبخس قط حق أحد خدم هذه البلاد، حتى ولو اختلف معها في بعض الأمور أو في بعض الأزمنة. وخاصة أن عزله جاء في زمن حرج، كان الشهيد الفيصل يحرص فيه على ثبات الحكومة بعدم تغير الوزراء. وقد عادت ذكرى الطريقي وأحيا تساؤلي فعاد فضولا جديدا، مع تفجر قصة هاري وايت ، متوج الدولار تاج ملك أسواق المال والعملات، ومحطم الهيمنة البريطانية النقدية والمالية والتجارية. والأمريكيون لا يقلون عن الحكومة السعودية في تكريم رجالهم وأبطالهم، إلا أنهم بخلاف عادتهم أهملوا ذكر فارسهم النقدي الاقتصادي العظيم، هاري وايت، فلم يظهر اسمه إلا مؤخرا مع الأزمة المالية.

كلا الرجلين، الطريقي ووايت، كان فطنا وشديد الذكاء . وكلاهما كان حاد الطباع. وكلاهما أدى خدمة عظيمة لوطنه وقومه. وكلاهما تجاهلتهما أوطانهما. كما أن كلاهما ماتا فقيرين مقارنة بأندادهما ونسبة لجهودهما وما تسببا في جلب ثروات عظيمة لبلادهما، لم تنقطع عوائدها إلى اليوم. فلما اكتشفت السبب ذهب تساؤلي، وحل محله تساؤلات أكثر وأصعب تعقيدا.

فكلا البلدين السعودية وأمريكا، كانا يخوضان حربا فكرية مصيرية مع عدو شرس، عزف على وتر الحسد الإنساني الطبيعي لحتمية تملك قلة من الأغنياء لثروات الشعوب. فتملك العدو عواطف الناس فخادعها بالمثاليات، فغيب عقول العامة عن حقيقة سنن الله الكونية. والأخطر أنه غيب عقول كثير من الشرفاء الأذكياء ومن الوطنيين. فكلا الرجلين كان شريفا بعيدا عن أي فساد أو طمع في دنيا، عزيز النفس تستقذر نفسه الأبية قبول رشوة خيانة، كما يستقذر الحر العبودية. كما كان كلاهما ذكيا عبقريا ومواطنا محبا لبلاده. هذا الخليط من الشرف وكراهية الظلم، أوقع هاري وايت في حب الاشتراكية في زمن كانت أمريكا حينها تخوض حربا وجودية مصيرية مع الاتحاد السوفيتي. من خلال حرب شرسة أيدلوجية داخلية وخارجية مع الفلسفة الاشتراكية.

وبشبيه بوايت وصفات وايت وكبوة وايت، كان الطريقي - رحمه الله -، فقد وقع في حب القومية الاشتراكية حين كانت بلادنا تخوض حربا وجودية مصيرية ضد أطماع القوميين الاشتراكيين في الاستيلاء على ثروات الخليج النفطية، من خلال حرب داخلية وخارجية مع الفلسفة القومية التي تبنت الفلسفة الاشتراكية الاقتصادية والسياسية الدموية.

ولا تقارن تُهمة وايت بخطأ الطريقي. فقد اتهم وايت بعد موته، بتسريب معلومات للاتحاد السوفياتي. وان كان الكثير اليوم يبرؤونه من تهمته فما هي إلا مكيدة بريطانية لتثأر لنفسها من هاري وايت الذي نفذ أوامر روزفلت، فلم ينهِ فقط، بل حطم عظمة بريطانيا ودمر هيمنتها النقدية والتجارية والمالية العالمية وأخضعها للتبعية الأمريكية.

فالطريقي - رحمه الله - حاشاه أن يشك فيه أحد ، وكرُم أن تلصق به تهمة كذلك، ولكن الطريقي أظهر شغفه بالقومية العربية الاشتراكية، فأعلنها ولم يخفِها. فهو أول من نادى بمقولة نفط العرب للعرب الذي أصبح شعار القوميين والاشتراكيين العرب، وأشهر أواخرهم السفاح الهالك صدام حسين، الذي استخدمه في تأليب الشعوب العربية، فحاربنا بهذا الشعار إلى آخر يوم. فكلمة الطريقي ليست ككلمة غيره. فهو وزير الثروة البترولية العربية، ومهندس استقلاليتها العادلة، فكلمته أقوى تأثيرا في نفوس الناس، من ألف خطاب لعبد الناصر. كما نادى الطريقي بتدويل مكة والمدينة، وهي شعار سياسي فارغ يتذرع به القوميون والاشتراكيون والشُرار للاستيلاء على ثروات النفط، وإلا فهم أبعد الناس عن الدين وعن خدمة الحرمين الشريفين. وخطأ الطريقي لم يكن زلة لسان وانتهت، بل إنه - رحمه الله - أصر على موقفه حتى بعد عزله وحتى بعد عودته.

والإصرار على خلاف الرأي المعاكس لمواقف السياسة الوطنية العظمى من رجل دولة قُلِّد أهم منصب سيادي يتعلق بجوهر الصراع الوجودي، وفي فترة زاغت فيها الأبصار فعمي الكثير من أبناء الوطن فتشرب القومية الاشتراكية، فترة بلغت فيها القلوب الحناجر، أمر ليس هينا. فلا رأي حينها في الأديان والأعراف الإنسانية ولا موقف إلا «وهل أنا إلا من غزية إن غوت غويت، وإن ترشد غزية أرشد»، فكيف وقد كان الرشد مع الدولة السعودية سابقا ولاحقا تجاه القومية الاشتراكية.

وإن كان الأمريكيون لم يكرموا وايت، بل حاكموه حيا فلما أثبت براءته عادوا فاتهموه ميتا، ولم يذودوا عن عرضه، فإن الدولة السعودية لم تنسب تهمة قط للطريقي، ولم يُذكر في المجالس إلا بوطنيته وإخلاصه دون ذكر لأسباب عزله. ولم تمنع الدولة السعودية أحداً من الكتابة في تمجيد ذكراه، بل وكافأته على جهوده. فلم تعاقب الدولة السعودية الطريقي، وقد كان موقفه وكلماته أشد وطأة وتأثيراً وتغلغلاً من غزو الجيوش. وليس ذلك فقط، بل قد أحسنت الدولة السعودية إليه شيخاً كبيراً - رحمه الله - . فشكر الله للدولة السعودية، وشكر الله للطريقي. وقد وسع كرم الدولة السعودية في حال نصرها، أشد أعدائها، فكيف لا يسع الطريقي وهو فارس أرامكو والنفط. وباب المكارم والمروءات لا ينقطع، والإحسان للأبناء إحسان لأبيهم. وجبال بطولات الفرسان تغفر كبواتهم ولو كبرت، فما من كبوة أعظم من التي تجاوزها - عليه السلام - ودافع عن فارسها حاطب بن أبي بلتعة وقد أرسل من يحذر قريشا مخبرا بسر الرسول «أوليس من أهل بدر وما يدريك لعل الله - عز وجل - اطلع عليهم فقال اعملوا ما شئتم».

ويبقى التساؤل الأصعب: ولم يكبو أمثال هذين الفارسين الذكيين الوطنيين الشريفين كبوة عظيمة كهذه. فالفكر يتعارض مع طبيعتهما الفروسية الشريفة، ويتعارض مع المبادئ التي بها حققوا انتصاراتهم الوطنية. تفصيل ذلك والإجابة عن هذا التساؤل يكون في مقال بعد غد السبت الذي عنونته «الطريقي ووايت وغيبة العقل بين نزاع الوطن والأيدلوجية».

hamzaalsalem@gmail.com

تويتر@hamzaalsalem

مقالات أخرى للكاتب