08-11-2014

استعراض عضلات مؤسسة النقد في اكتتاب الأهلي

مصدر هذه المئات من مليارات الريالات التي اكتتب بها المكتتبون في البنك الأهلي عموماً وفي اليوم الأخير خصوصاً، من أهم الأحداث المهمة التي غابت تماماً عن النقاشات العلمية والاقتصادية والشعبية، رغم أنها تحمل كثيراً من الدروس والعبر وبطيّاتها مغازي معاني تفوق قوة النظام النقدي الحديث واستحالة ترضيخه بمقاطعة غوغائية أو تحريضية.

المبلغ المكتتب فيه اليوم الأخير يشكل تقريباً أكثر من ثلاثة أضعاف إمكانية الإقراض للبنوك كلها مجتمعة، سواء البنوك المتمشيخة أو غيرها.

فجميع النقد المتوفر للإقراض عند البنوك - حسب شهر مايو - لا يزيد عن ثمانين ملياراً تقريباً (وهي الاحتياطيات البنكية غير الإلزامية). وما قامت به البنوك من تقديم التسهيلات التمويلية في اليوم الأخير يبلغ 246 ملياراً. فلو افترضنا أن الثمانين ملياراً المتوفرة للنظام البنكي كله كانت تدور خلال الثلاثة عشر يوماً بين البنوك المكتتبة، فلم تحتاج البنوك للاقتراض من مؤسسة النقد، فهذا يعني أنّ البنوك المكتتبة اقترضت على الأقل لليلة واحدة من مؤسسة النقد ضعف ما تملكه البنوك جميعها من سيولة متوفرة للإقراض أي أنها اقترضت من المؤسسة 166 ملياراً تقريباً. أي أن المؤسسة ضخت في لحظات 166 ملياراً لترتفع القاعدة النقدية بأكثر من النصف لتبلغ 500 مليار تقريباً. وهذه المليارات ليس لها أي أصول حقيقية مطلقاً، بل مستندها مجرد إيصال من البنوك المقترضة. وبحساب تقريبي بسيط لتوضيح المفهوم، فإنّ هذه الـ 166 ملياراً تحتاج لنمو اقتصادي حقيقي بقيمة 750 ملياراً تقريباً لاستيعابها لو أنها لم تُسحب من السوق.

والعملية كلها ببساطة المفهوم لا الواقع، هي استخدام قلم رصاص لإضافة مبلغ الإيصالات البنكية بمجموع 166 ملياراً في جانب الموجودات وكتابته في جانب المطلوبات في دفتر سجل المؤسسة الذي يسجل أرقام القاعدة النقدية، ثم إعادة الإيصالات للبنوك ومسح الأرقام بعد ليلة عند انتهاء الاكتتاب، والحمد الله عادت القاعدة النقدية على ما كانت، لا أكثر ولا أقل. وهذا نفسه ما يحصل عند انكشاف أي بنك، فلا يعتقد أحد أنه يمكن أن يجتمع مجموعة مودعين كبار أو بنوك لإسقاط بنك بسحب ودائعهم ورفض البنوك الأخرى إقراضه. ولهذا لم تتحول أزمة 2008 الاقتصادية لكساد عظيم يفوق ما حدث عام 1929م الذي أشعل فتيله فزع المودعين فسحبوا ودائعهم فانهارت البنوك، وهذا حين كانت مسألة ضخ النقود أو إيجادها آنذاك مقيدة بتوافر الذهب. ولهذا لا يمكن أن تفلس أي دولة مهما بلغت ديونها مادامت بالعملة المحلية (بافتراض إمكانية حفظ سعر الصرف).

فاليوم لا قيد على البنك المركزي لإيجاد النقد بالعملة المحلية، إلا قراره بالموافقة لفعل هذا أم لا. واتخاذ هذا القرار، هو اليوم الجانب الصعب في عملية النظام النقدي المعقد المتداخل كالأوردة الشريانية في الاقتصاد المحلي والعالمي، لا عملية إيجاد النقود. فالنقود اليوم توجد بأي كمية عند حاجة الاقتصاد لها، وليس كاقتصاد الأمس الذي كان هو يوجد النقود. فالنقود اليوم خادمة للاقتصاد وتعمل له، واقتصاد الأمس هو الخادم عند نقود الأمس الذهبية ويعمل لها. فالنقود اليوم في خدمة الإنسان المُنتج بعد أن كان الإنسان المُنتج هو خادم النقود.

وحتى لو كانت البنوك قد استخدمت استثماراتها الخارجية كلها على افتراض أنها سندات سهلة التسييل وغير مكلفة، فسيلتها وجاءت بها، فإن العملية هي نفسها بالنسبة للقاعدة النقدية وسحب النقد، والفرق في موجودات المؤسسة.

وقرار مؤسسة النقد للاستجابة لطلب البنوك بإقراضها أضعاف المتوفر النقدي القابل للإقراض، رغم تغطية الاكتتاب مرتين بيوم قبله، هو استعراض عملي لقوة النظام النقدي الحديث التي لا يمكن إرضاخه أبداً، لهوى بنوك امتنعت عن الاكتتاب أو أشخاص تنادوا بمقاطعة الاكتتاب. فلا حد لإمكانية البنك المركزي اليوم لإيجاد النقد ولو بلغت الحاجة تريلونات الترليونات. فلو امتنع الناس كلهم عن الإيداع وسحبوا أموالهم فجعلوها نقوداً ورقية فخبأوها في بيوتهم، لما اهتزت شعرة للبنك المركزي ولعوّضها في ثانية واحدة واستمرت التمويلات ليستمر الاقتصاد والإنتاج.

وقد بيّنت نتائج التخصيص لأسهم الاكتتاب أنّ قرار المؤسسة بالموافقة على إقراض البنوك كان محسوباً بدقة، لضمان عدم تأثر المكتتبين الصغار بضخ السيولة التي مكّنت البنوك من تقديم التسهيلات. وعدم تأثير هذه السيولة على التخصيص. ولم تخلق السيولة كذلك ملاكاً كباراً - بسبب التسهيلات - يستطيعون التأثير على سعر السهم حين طرحه للتداول. فقرار الشراء أو البيع عند أول أيام طرح السهم للتداول مازال قراراً استثمارياً بحتاً.

فإقراض المؤسسة للبنوك كان عملاً مهنياً رائعاً لإثبات قوة السوق النقدية السعودية. وتسهيلات البنوك التي قدمتها كانت مجرد تحصيل أرباح للبنوك. ومن غامر بأخذ تسهيلات ليشتري أكثر من ألفي سهم لم يستفد إلا دفع فوائد التسهيلات. ومن اكتتب بألفين وأقل، وهم 97.4% من مجموع المكتتبين، فهذا رزق طيب رزقه الله حلالاً بلا تعب ولا مئونة، والحمد الله القائل {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا}.

hamzaalsalem@gmail.com

تويتر@hamzaalsalem

مقالات أخرى للكاتب