27-11-2014

لماذا نكذب على الرأسمالية؟

للاشتراكية دور عظيم في جمود فكر العالم العربي على مفاهيم القرون الوسطى، فهو يتصور الأمور بمفاهيم مقلوبة انقلبت عليه عندما قلب مفاهيم الرأسمالية حين خلط بينها وبين عاطفة متخبِّطة بين المفاهيم الدينية والسياسية والاجتماعية.. فالرأسمالية هي نظرية علمية اقتصادية ليست بخفية ولا أسطورية، فهي التي تُدرَّس في جامعات العالم كلها، وبتنظيراتها يجاهد العالم اليوم لتحقيق التطور والازدهار، وإليها يرجع المتناقشون سواء أفهمها المدرس والطالب أو لم يفهماها.. ولهذا يشتكي الطلبة من الاقتصاد.. وما من صعوبة فيه، فهو دراسة منطقية لسلوك الإنسان والمجتمعات في السوق.. والصعوبة تأتي من التصورات الخاطئة المسبقة في ذهن المتلقي الذي يأوّل الكلام ويفهمه على تصوره المسبق لا على ما يسمعه أو يقرأه.. فأول ما ينبغي للمتلقي أن يتلقاها كما يتلقى الفيزياء والطب والكيمياء فيعزل المفاهيم الدينية والسياسية والاجتماعية.. فالدين من عند الله والمجتمعات من خلقه، والسوق من خلقه وتجري فيها سننه الكونية.. فلو تعارضت الرأسمالية لما كان لها أن تستمر، وما كان لها أن تتوافق مع المنطق.. فالنظريات الاقتصادية الحديثة كلها مشاهدات واقعية تُرجمت لنماذج اقتصادية ثم أُثبتت علاقاتها بالرياضيات.. وما أُثبت رياضياً فمنطقه صحيح، فبالرياضيات صعدنا الفضاء وتحدثنا عبر الإنترنت واللا سلكي. وأما ما تحدث من نكسات هنا وهناك تقوم بعدها أقوى وتصحح أخطاءها، فالعبرة في النتيجة والاتجاه العام، فالنكسات أيضاً من سنة الله كما هُزم المسلمون في أُحد وجاعوا في عهد النبوة وفي عهد الفاروق وكما اقتتلوا بينهم.. فما رأيت أعجب ولا أسطح فكراً ممن يستشهد بنكسات للرأسمالية لا مفر منها في سنن الله الكونية ليستمر في غيبوبة الفكر والمكانة، {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}.

ونعود للرأسمالية، فهي نظرية اقتصادية محضة سلمت تنظيراتها للانصياع لسنن الله الكونية فلم تعاندها.. ولهذا فهي في صورتها البكر تطابق التعاليم الإسلامية تماماً. فمبدؤها هو حرية السوق والتي يمثلها حرية الأسعار وحرية المنافسة.. فمتى تحقق هذا توفرت السلع بسعر التكلفة فلا ربح ظالم لتاجر ولا إسراف من مستهلك بسبب تقديم سلعة له لا يقدر ثمنها.. وبهذا يتم استغلال الموارد الاقتصادية المحدودة أمثل استغلال، لحرص المتنافسين على كفاءة الإنتاج بأقل الكلفة.. وهذا مبدأ معروف من قديم وقد أمر عليه السلام به حين رفض التدخل في السوق فرفض التسعير فقال: إن المسعر هو الله.. وأمر بتحقيق المنافسة فحرم عليه السلام تلقي الركبان.

وحسب سنة الله الكونية في السوق، فالسعر العادل هو سعر التكلفة وبه يتحقق حرية السوق بحرية الأسعار والمنافسة العادلة سبب لإيجاده.. ولذا منعت الرأسمالية التدخل الحكومي وقصرت عمل الحكومة على فرض تحقيق المنافسة العادلة ومنع التدخل في الأسعار من أي طرف وفرض الأنظمة لضمان ذلك.. فالعدل كل العدل في السعر العادل، والاستغلال الأمثل للموارد في حرية الأسعار والمنافسة.. فالسوق تحكمه الأسعار والأسعار تحكمها الكلفة. فكل زيادة مصطنعة في الكلفة يمكن للدولة منعها فيجب أن تمنعه، كمنع الاحتكار والامتيازات والضرائب، وهذه كلها من الأوامر النبوية.

وقد أمر الإسلام بالعدل مع الغني والفقير، وكذلك فعلت الرأسمالية، فمنعت كل تخفيض مصطنع للكلفة.. فهو لن يكون مجاناً، بل على حساب طرف من أطراف المجتمع ليسرف طرف آخر بحصوله على مورد اقتصادي لا يقدر ثمنه.. فلم تنحز الرأسمالية للتجار ولا للحكومات ولا للشعب، بل لما يحقق المثالية الاستغلالية للسوق وبهذا يتحقق تعظيم اقتصاد المجتمع كله.. ولهذا منعت الإعانات الإسرافية وأقرّت الإعانات التي تعظّم الإنتاج وبالتالي الأرباح.

فالأرباح هي مصدر السلطة الثاني للرأسمالية في تحقيق السعر العادل.. فالحكومة لا تقدر وحدها على مراقبة الشفافية المعلوماتية اللازمة لتحقيق السعر العادل، بل فطرة الإنسان لحب الخير تدفعه للاجتهاد والصدق في ظل العدالة، كما أن الأرباح تدفعه للظلم والكذب والغش في غياب العدالة.. وسعر التكلفة لا ينقصر على المواد فقط بل على المجهود الإنساني، فكل منافس يستطيع الإبداع والإنتاج بفعالية أكبر، سيستطيع أن ينتج بكلفة أقل من كلفة السوق وهذه يُعدها المنتج أرباحاً وتعدها الرأسمالية من الكلفة.. فأجر المنتج المبدع المجتهد ليس كأجر البليد، فالأول يحقق استغلالاً أفضل لموارد المجتمع.. وهذه الحقوق التنافسية لاستخراج الطاقة واستفراغ الجهد هي من الحقوق التي حفظها الإسلام حتى في الجهاد، فقرر أن من قتل قتيلاً فله سلبه.

فلكل ما سبق، بما فيه من جعل الحكومة خادمة للشعب، اقترنت الرأسمالية بالديمقراطية كما اقترنت الاشتراكية بالدكتاتورية الدموية.. فكل ما يُقال عن الرأسمالية مُحرّف المفهوم.. فالرأسمالية لم تمنع التعاون والصدقات والإحسان، بل منعت تدخلها في السعر العادل، فعزلتها عن الاقتصاد بعزل السياسة الحكومية عنها، وعن الاتجار بها في السوق.. والشاهد أن أكثر الصدقات والإحسان والتبرعات الصادرة عن منبع ديني هو من المحافظين لا الليبراليين.. وأكثر التجار أرباحاً عندهم أكثرهم صدقات، فلم نعرف بعد أبي بكر رضي الله عنه تاجراً يتبرع بماله كله إلا من الرأسماليين.. وليس بواحد بل وصلوا للمئات ممن تبرع بالنصف فأكثر.. بل أشد المحافظين وهم حزب الشاي الجمهوري المتطرف الذي يطالب بالرأسمالية البكر، فينادي بعدم فرض الضرائب وبمنع الإعانات الحكومية هو في الواقع الأقرب للتعاليم الإسلامية، فالضرائب هي أموال الناس فلم تعط بغير إذنهم بشكل إعانات لمن لا يستحقها فضلاً عما فيها من إفساد السوق.. على عكس الحزب الديمقراطي الذي يُعتبر أقرب للدعاوى الاشتراكية.. وكذلك هذا ما يفرِّق الأحزاب العمالية والاشتراكية في الدول الديمقراطية عن الأحزاب الليبرالية.

والواقع والتاريخ يشهدان أياً من هذه الدعاوى حق، وأي الدعاوى كذب وأيها أحلام وردية لتعساء يعيشون على التّسلي بأساطير كاذبة تخدر ألمهم وتعين ظلمة السوق على الظلم فيه.. ولعلي في المستقبل آتي بشواهد واضحة من أقاويل يرددها مفكرونا قبل غيرهم، رغم أن بطلانها واضح للعيان ولكنها خدرة التسلي بالأوهام وعمى إنكار الحقائق لكي لا نفيق من غفوتنا.

hamzaalsalem@gmail.com

تويتر@hamzaalsalem

مقالات أخرى للكاتب