الرياض - خاص بـ«الجزيرة»:
للعمل في الإسلام مكانة كبيرة ومنزلة رفيعة، وقد حثت تعاليم الدين الإسلامي على العمل والسعي في طلب الرزق، وهناك عدد من الشواهد في الكتاب والسنة التي تؤكد على ذلك.
والعمل في الإسلام مرتبط بالأخلاق ارتباطاً وثيقاً، لأن القيم والأخلاق الإسلامية هي التي توجه العمل الوجهة الصحيحة، كما أن الأخلاق تمثل ركناً أساسياً في حياة الإنسان، بل إنها ضرورة إنسانية لأزمة لحياة المجتمعات.
«الجزيرة» طرحت القضية على عدد من أهل الرأي في مختلف العلوم والمعارف، لمعرفة الكيفية لترسيخ قيم الأخلاق في بيئات العمل المختلفة.
العمل عبادة
يؤكد الأستاذ بسام بن عبدالله البسام المحامي والمستشار القانوني أن الإسلام لا يفصل بين العمل والأخلاق، بل يجعل الأخلاقَ جوهرَ العمل وروحه.
فليس العملُ في التصوّر الإسلامي مجرّدَ إنجازٍ لمهمّة أو تحقيقٍ لغاية مادية، وإنما هو أمانةٌ في العنق، وتكليفٌ مشفوعٌ بالمسؤولية.
فإلى أيّ حدٍّ يتطلّب العملُ الأخلاقَ؟
الجواب: إلى الحدّ الذي يُصبح فيه العمل بلا خُلُق، عملًا باطلًا أو ناقصًا أو مردودًا.
فالصدقُ مطلوبٌ في كل عمل، لأنه أمْرُ الشارع الحكيم، وهو أساس النزاهة، وموضع الثقة،
وكذلك الأمانةُ فهي أصلٌ لا غنى عنه في أي مهنة، قال صلى الله عليه وسلم: «أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك..»، ومثل ذلك الإخلاصُ يُحوّل العمل إلى عبادة، وفي الحديث: «إنما الأعمال بالنيات».
أما الإحسان، فهو ما يرفع قيمة الأداء، ويمنحه بعدًا رفيعًا: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء»، وقد جاء في الحديث الشريف: «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه».
والإتقانُ لا يكون إلا بخلقٍ وإخلاص، وحرصٍ على الخير للناس، وحتى في المعاملات اليومية، والبيع والشراء، فإن الخلق ركنٌ لا ينفك عنها، يقول صلى الله عليه وسلم: «رحم الله عبدًا سمحًا إذا باع، سمحًا إذا اشترى، سمحًا إذا اقتضى».
وعليه، فإن الميزان الذي يزن به الإسلام قيمة العمل، ليس الكسب وحده، ولا الإنتاج فحسب، وإنما هو الخُلُق؛ فالعمل بلا خُلق، كالجسد بلا روح.
حقوق وواجبات
ويشير الأستاذ محمد بن صالح الحمادي الرئيس التنفيذي للمجموعة الطبية: إن المبادئ الأخلاقية الأساسية للطب والمهن الصحية تمثل جزءاً لا يتجزأ من المبادئ الأساسية للإسلام باعتباره طريقة حياة وهذه المبادئ هي التكريم والعدل والإحسان ونعني بتكريم الإنسان وجوب معاملته باعتباره «شخصاً» أي «فرداً» ذا حقوق، له أن يطالب بها وعليه واجبات هو «ملزم بأدائها»، كما أن التكريم مبدأ مهم من مبادئ الإسلام، كما أنه أهم مبادئ التعامل مع المريض؛ فللمريض كل الحق في معرفة كل تفاصيل حالته وفي تلقي العلاج المناسب وفي صون أسراره الطبية، وفي الحصول على الرعاية الصحية اللازمة، كما أن على المريض مع تمتعه بهذه الحقوق واجب الإمساك عن الأضرار بالمجتمع الذي يعيش فيه، مشيراً إلى أن مهنة الطب نشاط بشري حساس يحتاج بطبيعته إلى ترشيد دائم وتهذيب مستمر، لتكون عن حق، مهنة الرحمة والحنان، ومعنى أنها مهنة الرحمة، فإنه يتوقع منها دائماً أن تحقق الجودة في الرعية، وتضمن الكرامة للمريض، وتجسد الضمير الحي لدى الطبيب بل تسهم الإسهام الحقيقي والفاعل في رفع مستوى الحياة للفرد والجماعة على السواء.
الوعي الحقيقي
ويشدد محمد الحمادي على أنه من الأهمية بمكان الاشتراك مع المسؤولين والمهتمين بأمور الرعاية الصحية في بلادنا في الوعي الحقيقي بأهمية أخلاقيات المهنة في ممارسات الطب الحديث، وهذه الأهمية إنما تنشأ وتتشكل في واقع الأمر، في إطار عدد من العوامل قد يكون من أهمها تلك التطورات المتلاحقة في علوم الطب والتقدم الهائل في تقنيات الرعاية الصحية، وكذلك الاتجاهات السائدة في تعليم وتدريب الأطباء وقبل ذلك الاهتمام الكبير بجلب النخبة الطبية المتميزة من الأطباء والفنيين ومن كافة التخصصات بما يسهم في تطوير الممارسات الطبية الرشيدة ومما يبعث على هذا العمل الواجب الديني والوطني.
والجوانب الأخلاقية في مجال الرعاية الصحية وهي هدف وليس شعاراً نسعى إليه وهذا ما نؤكد عليه دائماً من أن الرعاية الصحية، إلى جانب كونها ركناً أساسياً وجوهرياً في مسيرة التقدم والتطور في بلادنا، فإنها يجب أن تحمل في الوقت ذاته قواعد ثابتة ومبادئ قويمة، تتجسد فيها وبالدرجة الأولى أخلاقيات مهنة الطب بما تشتمل عليه من التمسك بالقيم الإنسانية العليا والمبادئ الأخلاقية الرفيعة.
قواعد قانونية
وتبين الأستاذة وعد بنت عبدالرحمن القحطاني المحامية والمستشار القانوني بعض الركائز المهمة لترسيخ قيم الأخلاق في بيئات العمل من منظور قانوني، وفق ما يلي:
وضع لوائح وأنظمة داخلية ملزمة: تضمين نصوص واضحة في الأنظمة والسياسات الداخلية للمؤسسات تنص على الالتزام بالقيم الأخلاقية مثل: النزاهة، العدالة، واحترام الزملاء، مع الإشارة إلى عقوبات للمخالفات الأخلاقية.
إصدار ميثاق أخلاقي مهني: صياغة ميثاق يحدد القيم والمبادئ الأخلاقية التي تنظم العلاقة بين العاملين وأصحاب العمل، بما يضمن الالتزام بالقوانين واللوائح الوطنية.
إنشاء وحدات رقابة داخلية: تشكيل لجان أو أقسام مختصة بمراقبة السلوكيات في بيئة العمل للتحقق من الالتزام بقواعد الأخلاق المهنية وتلقي الشكاوى ومعالجتها.
التحفيز القانوني للأخلاق الحميدة: تضمين سياسات التحفيز والمكافأة في اللوائح الداخلية للمؤسسة، بحيث تُمنح التقديرات والمكافآت للعاملين الذين يظهرون التزامًا بالتوجيهات الأخلاقية.
التثقيف والتدريب الإلزامي: فرض دورات تدريبية قانونية على العاملين تركز على أخلاقيات العمل وآثارها القانونية، مع ربطها بحقوق وواجبات الموظفين المنصوص عليها في عقود العمل.
ضمان تطبيق الجزاءات التأديبية: تفعيل الجزاءات القانونية بحق المخالفين للقيم الأخلاقية مع الالتزام بمبدأ الشفافية في الإجراءات لضمان العدالة والمساواة.
وتؤكد المحامية وعد القحطاني أنه من خلال هذه الخطوات، يتم دمج الأخلاق كمكون رئيس في الإطار القانوني والتنظيمي للمؤسسات، مما يضمن الالتزام بها في بيئة العمل.
مدونة سلوك
وترى الأستاذة أسماء بنت موسى العليان الرئيس التنفيذي لشركة العليان القابضة: إن ترسيخ قيم الأخلاق في بيئات العمل يتطلب مزيجاً من السياسات، والقدوة، والبيئة التنظيمية، وذلك من خلال القدوة تبدأ من الأعلى، القادة والمديرون يجب أن يكونوا أول من يلتزم بالأخلاق ويظهرها في تصرفاتهم اليومية، والموظفين يتعلمون من الأفعال أكثر من الكلمات، لذا لا بد أن يكون السلوك الأخلاقي جزءاً من هوية القائد، كما يجب تضمين القيم في السياسات واللوائح، حيث تتضمن لوائح العمل مدوّنة سلوك واضحة تعبر عن القيم الأخلاقية المرغوبة (مثل: الأمانة، العدالة، احترام الآخر، المسؤولية)، وهذه المدونة لا تكون فقط وثيقة شكلية، بل تُشرح وتُناقش في التدريب واللقاءات الدورية، كما ينبغي بناء ثقافة الاعتراف والمساءلة، وتعزيز السلوك الأخلاقي من خلال الثناء والمكافأة، وفي المقابل وجود نظام واضح للمساءلة عند الإخلال بهذه القيم دون محاباة، إضافة إلى التدريب والتوعية المستمرة، مع إقامة ورش عمل ودورات متخصصة حول القيم والسلوكيات الأخلاقية في بيئات العمل، وربط القيم الأخلاقية بالنجاح الوظيفي وسمعة المؤسسة، مع وجود الشفافية والتواصل المفتوح، وخلق بيئة تسمح بالإبلاغ عن التجاوزات دون خوف (مثلاً: خطوط سرية أو لجان نزاهة داخلية)، وتشجيع الحوار حول التحديات الأخلاقية المحتملة في العمل.
ترسيخ القيم
ويقول الدكتور هشام بن عبدالكريم المشيقح نائب رئيس مجلس الأمناء بجامعة المستقبل بمنطقة القصيم: تُعد الأخلاق المهنية حجر الزاوية في نجاح أي مؤسسة، فهي لا تُعبر فقط عن التزام الأفراد، بل تُجسد هوية المؤسسة ومصداقيتها، ومن أجل ترسيخ هذه القيم في بيئات العمل المتنوعة، لا بد من اعتماد منهجية متكاملة تشمل الجوانب السلوكية والتنظيمية على حد سواء.
أولاً، يأتي دور القيادة القدوة؛ فالسلوك الأخلاقي يبدأ من القمة، وعندما يتحلى القادة والمديرون بالنزاهة والعدل، فإنهم يرسخون هذه القيم تلقائيًا لدى الموظفين من خلال أفعالهم.
ثانيًا، يمثل وضع ميثاق أخلاقي واضح وملزم خطوة أساسية، حيث يُحدد هذا الميثاق المعايير السلوكية المتوقعة، ويوفر مرجعية لجميع الموظفين في تعاملاتهم اليومية.
ثالثًا، تلعب التوعية المستمرة دورًا محوريًا من خلال الورش والدورات التدريبية التي تسلط الضوء على أهمية القيم الأخلاقية، وتُعزز قدرة الموظفين على اتخاذ قرارات صائبة في المواقف المختلفة.
كما أن العدالة في التقييم والمكافآت، إلى جانب إتاحة بيئة تواصل مفتوحة وآمنة، تُسهم في تعزيز الثقة بين أفراد الفريق، ومن المهم أيضًا تشجيع السلوك الأخلاقي من خلال تقديم الثناء والمكافآت للموظفين الملتزمين بهذه القيم، مما يعزز من انتشارها ويجعلها ثقافة راسخة داخل المؤسسة.
ويؤكد د. هشام المشيقح أن غرس الأخلاق في بيئات العمل ليس مسؤولية فردية، بل هو مسار جماعي يبدأ من القمة ويشمل الجميع لتحقيق بيئة عمل صحية ومنتجة، تنعكس آثارها الإيجابية على المجتمع ككل.