إلى والدي.. الذي أنهكه المرض، وما زال صخرتنا الثابتة، وملاذنا الآمن.
لم أكن أعلم أن التقاعد قد يكون بابًا لمرحلة مختلفة..
ظننتُ أنه راحة بعد تعب، ووقت مستحق لعيش الحياة بهدوء.
تقاعد والدي عند الستين، وبدا كل شيء طبيعيًا.
لكنه ما كان يعلم، ولا نحن، أن التقاعد قد يأخذ معه شيئًا من النور، من العافية، من ذاك البريق الذي كان يملأ عينيه.
بدأ يتعب لأقل مجهود.. يسقط أحيانًا أثناء المشي، ويختار البقاء في البيت أكثر مما عهدناه.
عمره ليس كبيرًا، لكن المرض جعله يبدو كمن عاش قرونًا.
في البداية، حسبتُه ضيقًا من الفراغ، أو وحشةً بعد اختفاء الأصدقاء، لكن السقوط على الدرج كان أول الإنذارات، وكان المستشفى بداية الحقيقة.
باركنسون..
اسم لم أكن أعرفه، لكنه أصبح ضيفًا دائمًا في حياتنا.
عرفت لاحقًا أن هذا المرض ينهك الجسد، ويهز الروح قبل الأطراف.
يهتز والدي بلا إرادة، كأنه ورقة في مهبّ ريح..
كأنه طائرة بلا طيار.
الحركة أصبحت ثقيلة، الكلام مجهد، والبلع مهمة عسيرة.
صار يعتذر منّا بعينيه قبل لسانه، كأنما يخجل من ضعفه، وهو الذي كان دومًا رمز القوة.
ومع ذلك.. لم يتخلَّ عن محاولاته. كان يُجاهد، من أجلنا، ليُثبت أنه لا يزال السند، والظل، والحائط الذي نتكئ عليه.
حين يجلس أمام التلفاز، ويتحدث عن مشهدٍ شاهده، يسقط اللعاب من فمه دون أن يشعر، ويبدو وجهه شاحبًا مرهقًا..
لكنّه يبتسم.
كأن ابتسامته تقول: ما زلت هنا، لا تقلقوا..
أبي خذلتك قدماك وجسدك مرهق وقدماك لم تعودا كما كانتا، وعضلاتك التي طالما حملتنا، أصبحت تبحث عمّن يحملها.
لكن صدقني أنت ما زلت القوي في عيني، وما زلت الجبل الذي أسكن ظله، حتى وإن لم تعد تمشي، فأنت تمشي في قلبي كل يوم، تتقدّم الصفوف، وتسبقني في كل شيء.
أبي،
أعرف أن الألم كثير، وأن التعب لا يُطاق، لكن الله معك، ثم أنا معك، أمسك يدك، وأحملك في دعائي، كما كنت تحملني في صلاتك.. يا من تقرأ، إن كان والدك حيًا، فلا تؤجل محبته.
احتوِه، تحدث معه، اجعل عينيه تلمع، ولو مرة في اليوم.
الآباء لا يطلبون الكثير، فقط أن يشعروا أنهم ما زالوا مهمّين..
أن مكانتهم في قلوبنا لم تتغيّر، مهما تقدّمت بهم الأعمار أو تراجعت قواهم.
اللَّهم اشفِ أبي، واخفف عنه، وكن معه كما كان دومًا معنا.
اللَّهم ارزقه راحة لا تعب بعدها، ونورًا لا ظلمة فيه، اللهم أكرمه كما أكرمنا، واجعله من أهل الجنة، بغير حساب ولا سابقة عذاب.
** **
- فاتن حمد / الخرج