بريدة - خاص بـ«الجزيرة»:
أكد الدكتور طلال بن سليمان الدوسري، أستاذ الفقه بجامعة القصيم، على وجوب أن يوطن المرء نفسه على فعل الخير لله، بحيث لا تلتفت نفسه بعد بذله منتظرة أي مقابل من الناس صغر أو كبر، وتلك رتبة عالية لا تبلغها النفس إلا بعد صبر ومجاهدة، وقد قال الله تعالى في خبر الأبرار: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا } (الإنسان 8-9).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية (ت (728) رحمه الله: «ولهذا كان المحققون للإخلاص لا يطلبون من المُحْسَنِ إليه لا دعاء ولا ثناءً ولا غير ذلك، فإنه إرادة جزاء منه؛ فإن الدعاء نوع من الجزاء على الإحسان والإساءة؛ كما جاء في الحديث: من أسدى إليكم معروفًا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه، فادعوا له حتى تعلموا أنكم قد كافأتموه»،
وأيضا كانوا إذا كافأهم المعطى بدعاء وغيره قابلوه بمثل ذلك، ليبقى أجرهم على الله تعالى، ولا يكونوا قد اعتاضوا منه، كما كانت عائشة رضي الله عنها إذا أرسلت إلى قوم بهدية تقول للمرسل: اسمع ما يدعون به لنا حتى ندعو لهم بمثل ما دعوا لنا، ويبقى أجرنا على الله تعالى. فهذا ونحوه غاية ما يقدر من الجود المعروف».
ويقول الشيخ عبد الرحمن السعدي (ت 1367) رحمه الله، في تقرير هذا المعنى: «ومن أنفع الأمور لطرد الهم: أن توطن نفسك على أن لا تطلب الشكر إلا من الله، فإذا أحسنت إلى من له حق عليك أو من ليس له حق فاعلم أن هذا معاملة منك مع الله، فلا تبال بشكر من أنعمت عليه، كما قال تعالى في حق خواص خلقه: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} (الإنسان: 8)، ويتأكد هذا في معاملة الأهل والأولاد ومن قوي اتصالك بهم، فمتى وطنت نفسك على إلقاء الشر عنهم فقد أرحت واسترحت».
أسباب الهم
وأوضح د. طلال الدوسري في حديثه لـ "الجزيرة» : أن من أسباب الهم الذي يصيب كثيراً من الناس ما قد يلمسونه ويجدونه من جحود ونكران للمعروف، خاصة إذا كان هذا من صديق أو قريب تتابع إحسانهم عليه، وربما حملهم هذا إضافة إلى ما يجدونه من الهم وتكدر الخاطر على سوء النظر في الناس عامة ومنع المعروف عنهم وثمة مقامان للحديث، أحدهما موجه لذلك الجاحد، إما عن خبث نفس أو عن نوع غفلة وسذاجة، بأن فعله دناءة وقلة مروءة وليس الحديث هاهنا موجه إليه.
والمقام الثاني: مقام الحديث إلى صانع المعروف المهموم الموشك على الانقطاع عن بذل المعروف لما يراه من رذيلة النكران والجحود، وهو المراد هاهنا.
فيقال إن مما يدفع الهم الناشئ عن كفران المعروف، ويرغب بالاستمرار ببذل المعروف مع ما قد يجده الإنسان من جحود أمور:
أن يستذكر صانع المعروف من يشكره على معروفه ويذكره ويثني به عليه مع أنه لم يصله! فإنه إذا تأمل ذلك سكنت نفسه واطمأنت؛ إذ إنها سترى أن شاكري معروفه الذين لم يصلهم صنيعه أضعاف جاحدي المعروف الناكرين له، وهذا أمر مشاهد لمن تأمل.
وقد نقل أبو العباس المبرد (ت 285) رحمه الله: عن علي الله: «لا يزهدنك في المعروف من لا يشكرك عليه، فقد شكرك عليه من لم يستمتع منك بشيء، وقد يدرك من شكر الشاكر أكثر مما أضاع منه الكافر»، ونقل عن ابن عباس رضي الله عنهما: «لا يزهدنك في المعروف كفر من كفره، فإنه يشكرك عليه من لم تصطنعه إليه»، وقوله: «يشكرك عليه من لم تصطنعه إليه» يحتمل من يشكره من الناس، ويحتمل أيضاً أن يريد الله فيكون عائداً إلى الأمر الأول المتقدم.
روى ابن أبي الدنيا (ت 281) رحمه الله عن الشعبي قال: «كان الحطيئة وكعب عند عمر رضي الله عنه فأنشد الحطيئة:
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه
لا يذهب العرف بين الله والناس
فقال كعب هي والله في التوراة لا يذهب العرف بين الله وبين خلقه».
وأنشد الرياشي:
يد المعروف غنم حيث كانت
تحملها كفور أم شكور
ففي شكر الشكور لها جزاء
وعند الله ما كفر الكفور
إحسان الظن
وشدد د. طلال الدوسري على وجوب أن يحسن صانع المعروف ظنه ما استطاع بما يبدو جحوداً ونكراناً للمعروف؛ فإن كثيراً من ذلك له وجه من العذر، ولو أن يحمل ما صدر من النكران على أنه غير مقصود، ولعل له من الأسباب التي تغتفره مما لم يبلغك! قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «لا تظن بكلمة خرجت من في مسلم شرا وأنت تجد لها في الخير محملاً»، وقال أبو قلابة رحمه الله: «إذا بلغك عن أخيك شيء تكرهه فالتمس له العذر جهدك، فإن لم تجد له عذرًا فقل في نفسك: لعل لأخي عذرًا لا أعلمه».
قال الماوردي (ت 450) رحمه الله: «وحكي عن بنت عبد الله بن مطيع أنها قالت لزوجها طلحة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، وكان أجود قريش في زمانه ما رأيت قوما ألأم من إخوانك، قال مه ولم ذلك؟ قالت: أراهم إذا أيسرت لزموك، وإذا أعسرت تركوك. قال:هذا والله من كرمهم، يأتوننا في حال القوة بنا عليهم، ويتركوننا في حال الضعف بنا عنهم.
فانظر كيف تأول بكرمه هذا التأويل حتى جعل قبيح فعلهم حسنا، وظاهر غدرهم وفاء، وهذا محض الكرم ولباب الفضل، وبمثل هذا يلزم ذوي الفضل أن يتأولوا الهفوات من إخوانهم».
ومما يعين على ذلك أن ينزل الإنسان غيره منزلته فإن ذلك أدعى لالتماس العذر وقبوله، وأدعى من ثم لزوال الهم والكدر.
وهذه الأمور: «توطين النفس على فعل الخير الله سبحانه وعدم الالتفات لما يصدر من الناس»، و»النظر إلى من يشكر المعروف من الناس ويذكره ممن لم يصله»، و»تحسين الظن بالناس» يشبه أن يكون أولها علاجاً وقائياً من هذا الهم، ولذا من بلغ هذه الرتبة المنيفة {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} (فصلت: 35)، فإنه لا يحتاج لغيرها؛ لأنه لا يلتفت أصلاً إلى ما يصدر من الناس أشكروا أم كفروا أحفظوا أم جحدوا، مع أن النفس البشرية لا تخلو من عوارض النقص والقصور فتحتاج إلى معززات أخرى.
أما الأمر الثاني: فهو وإن كان ينبغي أن يكون مستحضراً في كل حين؛ إذ هي حقيقة واقعية، إلا أن استحضارها يتأكد حين تلتفت النفس إلى ما يصدر من جحود وكفران!
وأما الأمر الثالث: فهو كذلك، بل ينبغي أن يكون منهج حياة للإنسان في الجملة، كما ينبغي أن يستثمر العاقل ما يراه من جحود المعروف صنعه هو أو غيره، في تهذيب نفسه وإصلاحها، حتى لا تقع في هذه الرذيلة أو تقاربها من حيث لا تشعر؛ فإن النفس في الغالب لا تبصر العيب الواقع فيها كما تبصره في غيرها، هذا مع أن الأصل والكمال ألا تمتد عينه للنظر في عيوب الناس، لكن أما وقد وقعت عينه على عيوب غيره فليجعلها مرآة لنفسه حتى لا تقع فيما هو مثل ما أبصرته من عيوب غيرها من حيث لا تشعر!
وأعظم الإثم بعد الشرك نعلمه
في كل نفس عماها عن مساويها
عرفانها بعيوب الناس تبصرها
منهم، ولا تبصر العيب الذي فيها
قال أبو محمد ابن حزم (ت 456) رحمه الله: «وما أدري لسماع عيوب الناس خصلة إلا الاتعاظ بما يسمع المرء منها فيجتنبها، ويسعى في إزالة ما فيه منها بحول الله تعالى».