الوالدة نورة بنت إبراهيم العياف، نَحسبها والله حسيبها من الصالحات، ولا نُزكّي على الله أحدًا.
كانت تصوم الدهر كلَّه، ولا تُفطر إلّا بسبب، فالأصل الصيام في سائر أيامها. كانت - رحمها الله -، صاحبة صلاة، وصاحبة قيام ليل؛ فكم من مرةٍ ومرّةٍ أدخل عليها وهي في مُصلّاها، وأمكث أنتظرها طويلًا كي تنتهي من صلاتها.
كانت لازمةً للسنن الرواتب، ويستحيل أن تتركها أيما كانت الظروف.
أذكر عندما كنت صغيرًا، كانت تأتي إليَّ مع السائق لكي تأخذني عندها، فأنا ابن لولدها المتوفى، وكانت ترى أني ابنها الذي فقدته؛ فكثيرًا ما تُخطئ في اسمي، وتناديني باسم والدي -رحمه الله-.
وأذكر أنِّي إذا نِمت عندها أشعر بها وهي تقوم تتوضأ في منتصف الليل؛ فقد كان لباب الحمام صوتٌ أحسُّ به إذا فُتح، فأنظر فإذا بجدتي تتوضأ وتبدأ في قيام ليلها.
وكنت حين أمكث عندها أرى منها عجبًا؛ فهي صاحبة صِلةٍ بجميع جاراتها، وتعرف المحتاج منهم، فتُنفق عليهم وتتفقدهم باستمرار، ولم تكن تتحدث بهذا، ولكني حين لزمتها رأيت ذلك بعيني؛ فكنت أخرج معها لتوزيع الرز والسكر وما شابهه من مواد غذائية على المحتاجين.
ومما أعلمه عنها: أنه يستحيل أن يسألها محتاجٌ فترده، أو لا تلبي له حاجته، أسأل الله أن يتقبل منها.
ومما عُرِفَت به جدتي: أنها كانت طيبة الخُلق، فلم يكن لها مُبغض، ولم تكن تعادي أحدًا، فهي محبوبة لدى الجميع، والكل يشهد لها بالخير.
في الآونة الأخيرة من حياتها، تعبت جدًا وأصبحت لا تستطيع المشي ولا الوقوف بمفردها،إلا أنها تُصرُّ أن تُصلي قائمة، وكان ذلك يشق عليها جدًا؛ فكان أبناؤها يطلبون منها أن تُصلي على الكرسي فترفض ذلك، وكنت أنا محبوبًا لها، فطلبت مني إحدى عماتي - وهي مشفقة عليها - أن أقنعها بالصلاة على الكرسي، فهي تتعب جدًا في القيام والركوع، وتبذل قصارى جهدها من أجل ذلك، فظننت أني أستطيع أن أقنعها بذلك، فقلت لها: (يُمَّه، الله يجزاك الجنة، الله سبحانه يعلم ما في داخلك، ويعلم حرصك على القيام؛ كبِّري وأنتِ قائمة ثم اجلسي». فردت عليَّ مباشرة: (لا، لا، مِنب مُصلِّية جالسة). ثم كبرت ولم تجلس على الكرسي.
وبعد فترة اشتدَّ تعبها جدًا، فأصبحت تحتاج الحمام خلال فترات قصيرة، وتشعر بألم شديد لا يفارقها.
وكان أثقل ما عليها، وأشد مصيبة وقعت بها، أنها لا تستطيع التجهز للصلاة، ولا تستطيع أن تؤديها متى شاءت، فهذا أثقل ما مرَّ عليها. فطلبنا منها أن تجمع الصلاة فرفضت وهي متألمة، وكأن مشهدها بين ناظري.
وفي آخر ثلاثة أيام من حياتها، كانت لا تستطيع التحدث ولا الحركة، ولكنها تشعر بنا وتنظر إلينا وتعرفنا، فحاولت أن تجمع أنفاسها لكي تبوح بكلمة، فكان ذلك صعبًا عليها، وبعد عدّة محاولات نطقت بصوت خافت مبحوح، وكنت أنا ممن سمعها، فكانت كلمتها: (حلّلوني).
غفر الله لها، وأسكنها فسيح جناته.
أسأل الله أن يتغمّدها بواسع رحمته، وأن يربط على قلوبنا؛ ففقد الصالحين من أشد البلاء على المسلمين. لا تنسوها من دعواتكم، جزاكم الله خيرًا.
تروحُ لنا الدنيا بغيرِ الذي غدَتْ
وتُحدثُ من بعدِ الأمورِ أمورُ
وتجري الليالي باجتماعٍ وفرقةٍ
وتطلعُ فيها أنجمٌ وتغورُ
فمن ظنَّ أن الدهرَ باقٍ سرورهُ
فذاك محالٌ لا يدومُ سرورُ
عفا الله عمَّن صيَّرَ الهمَّ واحداً
وأيقنَ أنَّ الدائراتِ تدورُ
** **
- حفيدها: محمد بن عبدالله بن محمد بن علي العجلان