تُعد السيرة الذاتية من أكثر الأنواع الأدبية التصاقًا بحياة مؤلفها وتجاربه الشخصية، بيد أن تلك العلاقة الحميمية التي تجمعهما لا تعني بالضرورة التطابق الصارم بين ما كُتب وما حدث للمؤلف بالفعل! والسبب يعود في الأساس إلى طبيعة الأدب الإنسانية، ثم إلى ذاكرة الإنسان الطرية التي لم تكن آلة تسجيل دقيقة يوماً ما، فكتابة السيرة الذاتية تخضع بصورة ما إلى تأثير الثالوث المتعارف عليه ونعني بذلك، زمن الحدث، والمشاعر الموجهة، بالإضافة إلى عنصر التخييل؛ وبمزج العناصر الثلاثة ظهرت العلاقة الجدلية والمعقدة بين الواقع والخيال في كتابة السيرة الذاتية، وهي علاقة تستحق التناول النقدي والتحليل.
ومع إصدار الكاتب بخيت طالع الزهراني سيرته الذاتية (العصفور الحافي) 2025م، برزت هذه الموضوعة (الثيمة) نموذجًا ثريًا لاستكشاف هذه العلاقة، فالاستهلال الذي بدأ به المؤلف كتابهُ يعطي القارئ إشارة واضحة عن هذا الصراع بين استحضار الكاتب للوقائع كما حدثت وبين تداخل الذاكرة والخيال في صياغتها، مما اضطر الزهراني إلى القول: «استغرق مني هذا الكتاب نحو عامين بين الكتابة والمراجعة والحذف والإضافة، كان من أصعب مراحله محاولة الاقتراب أكثر من الوقائع التي رويتها فيه، كنت أغوص في تلافيف الذاكرة، كمن يبحث من خلال فيلم سينمائي قديم.. حاولت الإمساك بخناقها في صراع محموم مع الذاكرة، وهي تحاول أن تتفلت مني» (انتهى كلامه)، هذه الفقرة من الكتاب تُلخّص التحدي الذي واجهه الكاتب في تدوين منعطفات حياتهِ بصورة موضوعية.
شُكّلت العلاقة بين الخيال والواقع في سيرة العصفور الحافي بتضافر عاملين مهمين؛ الأول يتعلق بظروف كتابة السيرة الذاتية، وظهر فيها اعتماد المؤلف على التذكّر أثناء كتابة المحطات المُهمة في حياتهِ سواء على الصعيد الشخصي أو المهني، باستدعاء تلك الحوادث ومحاولة كتابتها اعتمادًا على ما بقي في الذاكرة من صور ومشاعر، وهذه الطريقة منحت مساحة لولوج الخيال في ثنايا تلك الوقائع، مما اضطر الكاتب إلى الإضافة والحذف والمراجعة؛ مما يؤكد الصعوبة التي عاناها للاقتراب من الوقائع واستذكارها ومن ثم إعادة حكايتها وهذا بالطبع ما ذُكر في مقدمة الكتاب.
العامل الثاني – الذي شكّل العلاقة بين الواقع والخيال في سيرتهِ الذاتية - يرجع إلى نظرة المؤلف نفسهِ إلى مفهوم السيرة الذاتية التي حدّده في الاستهلال بقوله: «سطور هذا الكتاب تحمل وقائع ومحطات ومواقف، حاولت كتابتها بأسلوب أدبي شيّق، مخلوطة بخيال» (انتهى كلامه)، مما يثير التساؤلات حول محاولة الزهراني تقديم سيرته الذاتية بأسلوب أدبي بإضافة بعض من المجاز، والتشبيه، والاستعارة، والكناية وغيرها من فنون البلاغة، مما يشير بوضوح إلى دور الخيال في سيرته الذاتية، ويثير تساؤلات نقدية مهمة حول الحدود بين الواقع المتذكر والواقع المتخيل في الكتاب.
ولحل هذه الإشكالية يمكن تناول هذه العلاقة إجمالًا من خلال أربع نظريات نقدية كُبرى شكّلت المحور العام الذي دَرس من خلالهِ النقاد العلاقة بين الخيال والواقع في السيرة الذاتية، وأولى هذه النظريات نظرية (الميثاق السردي) لـ«فيلب لوجون» المتعلقة بصدق النيّة في نقل التجربة الشخصية أثناء كتابة السيرة الذاتية، حيث يرى «لوجون» أن كُتب السيرة الذاتية تقوم على ميثاق «ضمني» بين المؤلف والقارئ، يتأسس عندما يُفصح النص بوضوح عن طبيعتهِ السير ذاتية، بتطابق اسم المؤلف على الغلاف مع ضمير الأنا السارد والشخصية الرئيسة في النص، فبذلك يتوقع القارئ بناء على هذه الميثاق أن يُقدم المؤلف رواية صادقة لحياته أو تجاربه الشخصية، مع تجاوز الدقة الصارمة إلى صدق النية في نقل التجربة والمعنى، مما يسلط الضوء على أهمية عنصر الواقع في السيرة الذاتية، مع توقع ولوج الخيال بسبب تداخل الذاكرة والخيال، مع بقاء الصدق في نقل التجربة والمعنى.
ويمكن تلمس أبعاد هذه النظرية في كتاب «العصفور الحافي» في عدة نماذج أولها تأسيس هذا الميثاق في غلاف الكتاب الداخلي بكتابة «ٍسيرة ذاتية»، والأمر الآخر تطابق الهوية الذي جاء في الصفحة السادسة، الذي بدأهُ بضمير المتكلم «أراني عصفورًا طامحًا...» ويشير إلى «طفولتهِ البسيطة»، هذا التطابق بين اسم المؤلف وعنوان الكتاب وضمير السارد والشخصية المحورية في الكتاب يعزز من الميثاق السير ذاتي.
هذا الأمر امتد إلى كثير من موضوعات الكتاب التي جاءت ضمن هذا السياق وأكدت على هذه النظرية مثل: «تمنيت أن أظل طفلًا!»، و» تسعة أعوام بأقدام عارية»، و«حفلة عرسي تحت خيمة.. والعقرب تباغتني!»، وغيرها من النماذج التي تؤكد الحرفية العالية للكاتب، إلا أن السيرة اعترتها -في بعض أجزائها- تأرجحًا في الصدق يعود ذلك إلى اعتراف الكاتب بالصعوبة التي واجهها في محاولة الاقتراب من الوقائع، مما يوحي بصورة ما إلى ضبابية محتملة في التفاصيل الواردة في كل موضوع، كون الكاتب شدّد على أن سردهُ سيكون مخلوطًا بالخيال في استهلال الكتاب، مما يعقد من فكرة الصدق! ويفتح الباب أمام تساؤل حول حدود هذا الميثاق داخل الكتاب -في بعضهِ- خصوصًا مع استعمال الكاتب، تقنية السارد العليم في الكتاب بدلًا من ضمير المتكلم في نقل بعض الأحداث كـ«سيارة مجنونة» وغيرها.. وبامتزاج الخيال حُوّلت بعض الصفحات إلى نوع من الميثاق الروائي بدلاً من السير ذاتي.
وثاني هذه النظريات النقدية طرحها عالم الاجتماع الفرنسي «هالبواكس» ضمن ما يُسمى «تداخل الذاكرة الفردية مع الذاكرة الجمعية»؛ ويعني بها تأثير المجتمع على التذكّر في كتابة السيرة الذاتية، فالذاكرة الفردية -حسب رأيه- ليست معزولة بل تتشكل وتتأثر بالذاكرة الجماعية للمجتمع الذي ينتمي إليه كاتب السيرة الذاتية، بواسطة المشتركات الاجتماعية والثقافية، فاللغة والعادات والتقاليد كذلك الروايات الجماعية تؤثر في كيفية تذكّر الأفراد لماضيهم وتفسيرهم لأحداثهِ؛ وبذلك لن يكون واقع حال السيرة الذاتية دائمًا شأنًا فرديًا بحتًا بل يتشكل في جُزء مهم منهُ ضمن عدسة الذاكرة الجمعية، وبذلك يكون ارتباط الواقع بالخيال داخل السيرة الذاتية ملونًا أو أعيد تشكيله بصورة جزئية بفعل المرويات والقصص والتصورات المشتركة بين أفراد جيل الكاتب، مما يضمن دخول عنصر الخيال الجمعي أثناء استعادة الماضي وتدوينه في السيرة الذاتية.
ظهرت تلك السمة بصورة خاصة في الجزء الأول والثاني من سيرة «العصفور الحافي» أي تلك الأجزاء التي دوّن فيها الزهراني سيرة طفولته وشبابه ورحلتهِ في التعليم، وغابت هذه السمة في الجزء الثالث من الكتاب عند سرد سيرتهِ المهنية في الصحافة، مما يمنح المتلقي قدرة على فصل الكتاب إلى قسمين الأول يتعلق بسيرة ذاتية محضة ممزوجة بتخييلات الكاتب، وقسم آخر يتعلق بالسيرة المهنية للمؤلف، مما أخلّ - بصورة جزئية - بالعنوان الفرعي «سيرة ذاتية» التي وضعهُ المؤلف على الغلاف الداخلي للكتاب.
مع ذلك يبقى تداخل الذاكرة الفردية مع الجماعية ظاهرًا في الكثير من موضوعات الجزء الأول والثاني من الكتاب؛ أهمها: «إذاعة لندن.. ودكان ابن مسمار» حيث تتمازج ذاكرة المؤلف الفردية مع ذكريات جيلهِ وعلاقته الحميمية بجهاز المذياع (الراديو)، و» حكايتي مع بحر جدة»، حيث ذكريات ذلك الجيل مع شواطئ بحر مدينة جدة، و»الوزير معنا في المدرسة عامًا كاملًا»، حيث برزت الذاكرة الجمعية في وصف المجتمع المدرسي في ذلك الوقت، كذلك جاءت الإشارات الاجتماعية حول الحياة الاجتماعية والاقتصادية في الكثير من اللقطات داخل الكتاب متأثره بالذاكرة الجمعية لجيل الستينيات والسبعينيات الميلادية في السعودية، حيث بساطة الحياة وشظف العيش من دون رفاهية أو كماليات ملموسة، مما يعزز من فرضية طريقة تذكر المؤلف وتفسيره لبعض الأحداث متأثرًا بالقصص والقيم والمعتقدات السائدة في مجتمعهِ ضمن ما يسمى «تأطير التجارب»، الذي سمح بصورة مباشرة بتداخل الخيال مع الواقع داخل «العصفور الحافي»، إلا أنّ بعض النصوص التي أُغرقت بمفهوم «تأطير التجارب» لم تخدم العمل السيري كون الكتاب مُصنف على أنهُ سيرة ذاتية تحكي التجربة الفردية فقط للمؤلف.
وثالث النظريات المُهتمة بعلاقة الواقع بالخيال في السيرة الذاتية جاءت عند «جيرارد جينيت» تحت مسمى (الأنا بناء لغوي)، حيث يرى جينيت أن الأنا في السيرة الذاتية ليست انعكاس مباشر للشخص الحقيقي للمؤلف، بل أنها شخصية سردية تم تشكّلها من خلال اللغة وعمليات الكتابة، فالكاتب يختار ما يرويه وكيف يرويه، بواسطة زاوية السرد والضمير المستعمل، وما سبق يساهم في خلق صورة محددة للذات، فالأنا بذلك هي نتاج عملية إبداعية، وليست مجرد نسخة طبق الأصل من الشخص البيولوجي للكاتب.
هذه النظرية تربط الواقع مع الخيال بتركيزها على الدور الإنشائي للخيال في السيرة الذاتية، فالكاتب ليس مسجلاً للوقائع فقط، بل مُبدع لشخصية سردية لها سماتها ودوافعها وتطورها، وبذلك تكون اللغة غير شفافة، بل تحمل دلالات وتأويلات تخييلية تُسهم في بناء السيرة الذاتية، يظهر ذلك في بناء الصورة الذاتية للعصفور الحافي في الكتاب، فهو ليس وصفاً واقعياً، إنما بناء لغوي لصورة ذاتية تحمل في طياتها دلالات الطموح والرغبة في التحرر، فرمزية العنوان ساهمت في تشكيل الشخصية السردية كشخص مرّ بتجارب صعبة «الحافي»، ولكنهُ يمتلك روحًا حرة وطموحة «العصفور»، فبذلك التزم الكاتب أسلوبًا مجازيًا للغة في نقل كثير من الوقائع، مما يؤكد وعيهُ بأن اللغة ليست مجرد أداة لنقل المعلومات، بل وسيلة لتشكيل التجربة السيرية وتقديمها للقارئ بطريقة معينة، وبالتالي بناء الأنا السردية.
يظهر ذلك جليًا في الكتاب باستعمال الكاتب كثيراً من الحيل السردية على مستوى العناصر (الحدث، الشخصية، الزمان، المكان)، في مجمل الموضوعات التي طرحها في الكتاب، إلا أن ذلك الأمر أوقع الكاتب في فخ كتابة القصة القصيرة لتقديم بعض من أجزاء سيرتهِ الذاتية، مما همّش من فكرة جيرارد جينيت في هيئة الأنا داخل السيرة الذاتية، ونقلها من سماتها الخاصة في السيرة الذاتية، إلى سماتها العامة في الكتابة السردية الإبداعية المبنية على الخيال الصرف.
النظرية النقدية الرابعة والأخيرة هي لـ «بول دي مان» الذي يرى صعوبة استعادة الحقيقة المجردة بسبب قيود اللغة؛ فاللغة بطبيعتها - حسب رأيه - مجازية وتأويلية، وعندما يصف المؤلف في سيرته الذاتية شيئاً من ماضيهِ فإنهُ ينقل تجربته إلى القارئ بواسطة الكلمات، فهو بالضرورة يقوم بعملية ترجمة وتفسير لما حدث، كون اللغة لا تستعيد الحقيقة الموضوعية، هذه القيود التي تسببها اللغة في محاولة نقل الواقع تُدخل الخيال للسيرة الذاتية، حتى لو كان المؤلف يسعى للصدق التام، ويعود السبب إلى اختياره لألفاظ وتراكيب معينة، ومع ذلك فإن البناء اللغوي ككل سيُضفي في النهاية على الوقائع شيء من التأويل المحدد الذي يُسهم في تصوّر القارئ لما حدث بالفعل، مع مساحة معقولة من الخيال.
وقد اعترف الزهراني بتلك القيود كونهُ يحاول استعادة ذكريات «فاق عمرها خمسة عقود»، هذا الاعتراف يتماشى مع فكرة «دي مان» حول محدودية اللغة في استعادة الماضي كما هو، كذلك تظهر هذه النظرية مع استعمال الكتاب للغة المجازية بتشبيهه الذاكرة بـ «فيلم سينمائي قديم»، مما يوضح أن اللغة ليست وسيلة آمنة تمامًا لنقل الواقع، بل هي أداة للتفسير والتعبير غير المباشر، مما يمنح مساحة لتسلل الخيال داخل السيرة الذاتية لملء الفراغات داخل الواقعة الواحدة نفسها؛ فظهرت نماذج كثيرة تعزز من حضور هذه النظرية داخل سيرة «العصفور الحافي» أهمها: «أول مقال لي في سلة المهملات» حيث جاءت قيود اللغة في المجاز المستعمل في سرد وقائع ما حدث للمؤلف مع المحرر الذي رفض مقالته؛ لوصف الحالة الشعورية للقارئ، مما استدعى منهُ استعمال بعض التشبيهات لإعادة خلق الصورة، مما منح الخيال مساحة داخل الواقعة، كذلك «صحفي صغير.. رئيس بلدية!» حيث ظهرت قيود اللغة في نقل المؤلف للواقعة، وكان حسب وصفه يعمل صحفيًا حينها وتعرض لموقف مُحرج بعد جلوسهِ على كرسي رئيس البلدية الغائب، الذي حضر بصورة مفاجئة وشاهد تصرفه غير المبرر، مما سمح بحضور الخيال في نقل التجربة الواقعية.
إجمالًا يمكن الخلوص إلى أن النظريات النقدية الأربع حول العلاقة بين الواقع والخيال في السيرة الذاتية أظهرت أنّ «العصفور الحافي» قد استوفى الميثاق السير ذاتي بتحديد الكاتب نوع العمل وهوية السارد، مع اعتراف الكاتب بصعوبة استعادة الوقائع وتداخل الخيال، ومع استعمالهِ الراوي العليم امتزجت السيرة الذاتية بالرواية في بعض المواضع، كذلك كشفت النظرية الثانية عن تأثير الذاكرة الجمعية في تشكيل تذكّر الكاتب لطفولته وسياقه الاجتماعي، لدرجة ما يسمى «التأطير الاجتماعي» للوقائع في بعض الصفحات، كذلك برزت «الأنا» السردية من خلال اللغة والتشبيهات والرمزية التي استعملها الكاتب في تقديم نفسه وتجربته الخاص، كما وضح أن اعتراف الكاتب بالقيود الزمنية واللغوية في استعادة الماضي أوجد صعوبة بالغة للوصول إلى الحقيقة المجردة في نقل ما حدث بالفعل بسبب تلك القيود، وكل ما سبق - في إجمالًا - هو ما أوجد تلك المساحة بين الواقع والخيال في الكتاب.
أخيرًا يُعد «العصفور الحافي» عملًا سيريًا مميزًا حمل طابعًا شخصيًا ومهنيًا حاول فيه بخيت الزهراني نقل تجربتهِ بصورة سهلة ومشوقة للقراء بمختلف مستوياتهم.
** **
- د. سلطان العيسي