الكتابة عن رموز المجتمع الذين لهم أثر في مجتمعاتهم من الصعوبة أن تحصر أو تحصى أعمالهم الإنسانية والخيرية في كلمات بسيطة، ففي كل مجتمع وفي كل أسرة يبرز رجال تتحدث عنهم أفعالهم قبل أقوالهم وأعمالهم قبل صورهم، فقد نذروا أنفسهم لخدمة الإنسانية وحب الأعمال الخيرية، ولم يمنعهم مرض أو ألم عن السير في هذا الطريق فهم رجال لا يتم تعويضهم ولا يتكررون.
ومن ذلكم العم عبدالرحمن بن صالح الشثري أبو هشام -رحمه الله-، رمز النبل والإنسانية بأعماله الخيرية ومواقفه الإنسانية، فقد وهب حياته لخدمة دينه ووطنه وبذل روحه وجاهه في خدمة الناس وقضاء حوائجهم، فلا يستطيع من يتناول شخصية أبي هشام الإنسان أن يختصر سنوات من البذل والعطاء وخدمة الإنسانية وتقديم الأعمال الخيرية في كلمات عابرة لا تفي الرجل حقه وإنما هي إشارات لجزء بسيط ما يمكن الإحاطة به.
فالعم عبدالرحمن -رحمه الله- من رجال مجتمعنا النوادر والمخضرمين فقد جمع بين تنوع ثقافي وإعلامي واجتماعي وإنساني، جمعها من خبرات عشرات السنين في إدارة العلاقات العامة بالحرس الوطني وكذلك رئاسة تحرير مجلة الحرس الوطني من أول عدد صدر لها، ثم أعماله الإنسانية والخيرية في مشروعات إنشاء مراكز غسيل الكلى في عدد من مناطق المملكة.
فسيرته العطرة والمميزة نتمنى من الجيل الجديد أن يستفيد منها بتبني أبنائه ومحبيه كتاباً يروي حياته للأجيال الشابة، فهو كنز من المعلومات والقصص والأحداث، ومدرسة يتعلم منه كل من يجلس معه أو يلتقي به، فهو من رموز المسؤولية الاجتماعية الذين أسهموا بإدخال السرور على الفقراء المحتاجين، والفرح على المرضى والمكلومين.
أبو هشام الرجل العصامي من الرعيل النادر؛ فقد توفي والده وهو بعمر سنتين وتوفيت والدته وهو في سن 12 سنة ومع ذلك شق طريقه في الحياة يتنقل بين أخواله وأعمامه في مسقط رأسه حوطة بني تميم والعاصمة الرياض ويلتقي كبار السن ورجالات ونخب المجتمع والملوك والأمراء؛ مما كون لديه حصيلة كبيرة ورصيد ضخم من الخبرات والعلاقات.
العم عبدالرحمن -رحمه الله- لم يكن مجرد شخص عادي، بل هو مجموعة أشخاص في شخص واحد، لما يحمله من نشاط الهمة وحب الخير والإنجاز والحرص، مما كون شخصية عظيمة بمنتهى الكلمة ومؤثرا في أسرته ومجتمعه فكان عظيم المكانة والتأثير بين أفراد الأسرة، فهو يبذل نفسه وجاهه في كثير من المواقف الإنسانية الكثيرة رغم إصابته خلال سنوات حياته بعدد من الأمراض المؤلمة؛ لكن تجده يقف أكثر عزماً بعد كل ألم يصيبه فهو مثال نادر وخاصة بين مرضى الفشل الكلوي الذين كان أحدهم بعد أن تعرض لهذا المرض المؤلم.
ومن الأمور العجيبة في شخصية العم عبدالرحمن الشثري صلة الرحم؛ فلا أعرف أحدا من الأسرة فيه من الوصل مثله، فهو يخصص أياماً في الأسبوع لزيارة كبار السن من أفراد أسرته وهذا ما يعجز عنه اليوم الأخ مع أخيه أو أخته، فما بالكم بالتواصل مع مجموعة من الأفراد بشكل مستمر ودائم ودون انقطاع، ولا يقتصر الأمر على جماعته وأفراد أسرته، بل كل من يعرف صغيراً أو كبيراً، ومن ذلك علاقته بوالدي الشيخ عبدالعزيز بن عبدالرحمن الشثري -رحمه الله-، حيث تربطهما علاقة نسب وقرابة ومحبة كون والدي -رحمه الله- خال العم أبي هشام وشقيق والدته فاطمة بنت عبدالرحمن الشثري -رحمها الله- وكان شديد الوصل بخاله وبينهما مودة ومحبة وعلاقة خاصة، ويزور الوالد باستمرار ولم تنقطع الزيارات سواء في الحوطة أو بعد انتقال والدي للرياض، وكان العم أبوهشام يخصص يوماً في الأسبوع لزيارة والدي -رحمهم الله جميعاً-.
ومن العادات الجميلة التي يحرص عليها العم عبدالرحمن فتح مجلسه بشكل يومي من بعد صلاة المغرب لاستقبال ضيوفه من أفراد الأسرة والأصدقاء والزملاء فكان مجلسه عبارة عن ملتقى ثقافي اجتماعي يومي يستفيد منه الجميع بالتواصل مع الأقارب أو المعارف فهذه الروح الإنسانية المحبة للخير.
وعندما تعرض لمرض الفشل الكلوي لم يتوقف عن النشاط والعمل، بل واصل المسيرة؛ فحب الخير لديه ليس مرتبطا بصحة، بل هو هَم وألم يحرص على المضي في تحقيقه تحت كل الظروف فبدأ في البحث عن هذا المرض؛ عن أسبابه ومشاكله وتعرف عن قرب على أبرز الصعوبات التي تواجه هذه الفئة التي ابتليت بهذا المرض وسعى بنفسه وجاهه وماله وعلاقاته لخدمة مرضى الكلى حتى قبل أن يزرع الكلية فبدأ البحث والتحري عن القصور الذي تعانيه هذه الفئة سواء في الرياض أو غيرها من المناطق.
وقد كانت هذه الأعمال الإنسانية التي قدمها بحاجة إلى أرضية ينطلق منها في التواصل مع رجال الأعمال لخدمة المرضى الذين كانوا همه منذ أن أصابه المرضى، فعمل كل ما في وسعه لخدمة هذه الفئة التي عايش همومها وبحث عن طريقة مناسبة يقدم خلالها، فانطلق في هذا الشأن متأسياً بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس وأحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مسلم أو تكشف عنه كربة أو تقضي عنه دينا أو تطرد عنه جوعا ..الحديث) فذهب بنفسه لسماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز -رحمه الله- في بداية هذا المشروع الخيري والإنساني لتكون معه وثيقة مهمة في دعم هذا المشروع العظيم، الذي كان النواة الأولى لجمعية مرضى الفشل الكلوي التي ما زالت تعمل حتى الآن.
وهذا هو النهج والطريق الذي يسير عليه العم أبوهشام في كل أعماله، فهو عندما يفكر بعمل معين يضع له قاعدة ينطلق منها لتكون خير معين له في توجهه ومشروعه، ومن ذلك المساهمة في إنشاء عدد من مراكز غسيل الكلى للمرضى المحتاجين، فكان أن أصدر الشيخ عبدالعزيز بن باز -رحمه الله- فتوى باعتبار التبرعات لإنشاء مراكز غسيل الكلى وكذلك شراء أجهزة غسيل الكلى من المشروعات العظيمة الجديرة بالتشجيع من أهل الخير على فعلها، وأجرها عظيم وهي من الصدقات الجارية.
فكانت فتوى الشيخ ابن باز -رحمه الله-؛ أحد مساعي هذا الرجل العظيم والنبيل عبدالرحمن بن صالح الشثري -رحمه الله- وما زالت وثيقة مهمة تزين واجهة موقع جمعية الأمير فهد بن سلمان الخيرية لرعاية مرضى الفشل الكلوي بعد أن سعى وكتب وتواصل بسماحة الشيخ الراحل عبدالعزيز بن باز -رحمه الله- وشرح معاناة مرضى الكلى وحاجتهم للدعم والصدقات، فأصدر الشيخ ابن باز هذه الفتوى المهمة وجاءت في هذا الخطاب الذي وجهه سماحته -رحمه الله- للأستاذ عبدالرحمن الشثري.. ونصها ما يلي:
من عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
إلى حضرة الأخ المكرم سعادة الأستاذ عبدالرحمن بن صالح الشثري وفقه الله..
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فأشير إلى رسالة سعادتكم المؤرخة في 18-5-1419هـ حول إقامة وحدات خيرية لغسيل الكلى للمساعدة في حل مشكلة تزايد أعداد مرضى الفشل الكلوي.
وأفيد سعادتكم أن اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء درست ما ورد في رسالتكم ورأت أنه مشروع عظيم جدير بالتشجيع لأهل الخير على فعله، وأجره عظيم وهو من الصدقات الجارية الداخلة في قول النبي صلى الله عليه وسلم: إذا مات ابن آدم انقطع عمله الا من ثلاث، صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له.
وأسأل الله أن يوفقني وإياكم لكل ما يحبه ويرضاه وأن يعين الجميع على كل خير إنه سميع قريب.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،،
المفتي العام للمملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء وادارة البحوث العلمية والافتاء.
وكان لهذا المشروع أثر عظيم بحمد الله، فبعد أن كان كثير من رجال الأعمال يخصصون جزءا كبيرا من أعمالهم الخيرية في بناء المساجد وبعض الأعمال الأخرى التي تركز في أغلبيتها على الدعم النقدي للفقراء والمحتاجين من خلال الجمعيات الخيرية، جاء مشروع بناء مراكز غسيل الكلى باباً جديداً من أبواب الخير انفتح على رجال الأعمال، فساهم الأمراء ورجال الأعمال في بناء مراكز غسيل الكلى في عدد من القرى والمحافظات في عدد من مناطق المملكة التي كانت في أمس الحاجة لذلك وكانت هذه الأعمال نواة لتأسيس الجمعية الخيرية لرعاية مرضى الفشل الكلوي التي تحولت فيما بعد إلى جمعية الأمير فهد بن سلمان الخيرية لرعاية مرضى الفشل الكلوي بتوفيق الله، ثم بالدعم والتوجيه والمساندة التي وجدتها الجمعية من الملك سلمان -حفظه الله- عندما كان أميراً لمنطقة الرياض.
وقد تحدث الشيخ عبدالرحمن الشثري -رحمه الله- في مقال نشره بهذا الخصوص عن المرحلة المهمة في حياته وهي متابعة مرضى الفشل الكلوي والاهتمام بهم من خلال مقال نشره في صحيفة اليوم يوم السبت 24-1-2004م.. بقوله:
«ولكوني أحد الذين يحملون همَّ هذه الفئة من المرضى (مرضى الفشل الكلوي)، حيث كنت واحداً منهم قبل سنوات، عشت معاناتهم وأحسست بهمومهم، وبعد شفائي بفضل الله رأيت أن أساهم في تخفيف آلامهم وتحسين أوضاعهم فاتجهت إلى المشاركة في الدلالة على الخير ابتغاء المثوبة والأجر انطلاقاً من الحديث الشريف (الدال على الخير كفاعله) ووجدت تجاوباً كريماً من الكثير من محبي الخير وأهل البر والإحسان في دعم الكثير من المستشفيات في مختلف المناطق بمراكز غسيل الكلى والأجهزة الحديثة وكنت دائم التنسيق مع المسؤولين في وزارة الصحة على كافة مستوياتهم ولست وحدي في هذا المجال، وقد نفع الله بها الآلاف من مرضى الفشل الكلوي وسدت نقصاً لا يشعر به إلا من يعانيه وحققت هدفاً استراتيجياً تسعى له الدولة وهو تطوير مفهوم العمل الخيري والتطوعي وتوسيع نطاقه ليقوم القطاع الخاص والمواطنون بدورهم لمساندة أجهزة الدولة وخاصة في مجال القطاع الصحي».
ويقول عنه رفيق دربه حمد القاضي المطلع عن قرب على هذه الأعمال في مقال منشور في صحيفة الجزيرة يوم الأحد 19-12-1999م «الأستاذ عبدالرحمن بن صالح الشثري جعل همه مرضى الكلى في جميع أنحاء المملكة، وسخر جهده وعلاقاته وجاهه وكثيرا من وقته له، فبدأ يتفقد أحوالهم، ودراسة أوضاعهم ثم بدأ يطوف على الأطباء ورجال الأعمال من أجل مساعدة المرضى والتخفيف من معاناتهم، بل إنه يسافر هنا وهناك من أجل هذه المهمة الإنسانية الرائعة، وكانت آخر رحلة له على حسابه إلى عرعر والقرى المحيطة بها لتفقد ودراسة أوضاع مرضى الكلى هناك، ولقد لقي الكثير من التجاوب والدعم من أهل الخير لأنه كان صادقاً ومتفانياً في هذا المسعى الإنساني، ومن هنا لقي كل القبول والدعم من الجميع مسؤولين وميسورين».
وتحدث عنه الشيخ سعد الحصين -رحمه الله- في مقال نشر بصحيفة الجزيرة يوم السبت 12-6-2004م «فقد منَّ الله على عبدالرحمن الشثري بتوقف كليتيه عن العمل، وفي كل أقدار الله لعبده المؤمن منن ونعم لا يدركها ولا يجني ثمرتها خيراً في الدارين إلا من رضي بقسمة الله له، (فمَن رضي فله الرضا، ومَن جزع فله الجزع)، (إن الله إذا أحب عبداً ابتلاه)، (إن الله إذا أحب عبداً عجَّل له العقوبة في الدنيا)، (إن من أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)، ومع توفر أسباب العلاج له - ومنه غسيل الكلى - فقد تبين له بحسه الاجتماعي وخلقه الكريم وهمته العالية ما يعانيه من ابتلوا بهذا المرض في الحواضر، فكيف بالمناطق النائية والأطراف، وقد أذن الله له بالشفاء، ولكنه لم ينْسَ غيره من المرضى الذين لم يهبهم الله ما وهبه من المنصب والجاه والغنى وكثرة المحبين، فسطر نداءً مؤثراً في جريدة الجزيرة يستثير همم أولي الهمم وعزائم أولي العزائم من المواطنين، فوجد استجابة تفوق كل التوقعات بفضل الله وتوفيقه، وتسابق المواطنون يتقدمهم - كالعادة - ولاة أمرهم لتوفير مئات المراكز والأجهزة بإشراف وزارة الصحة وإدارتها وتشغيلها وصيانتها.
رحم الله العم عبدالرحمن بن صالح الشثري وأسكنه فسيح جناته.. ومن هذا المنبر أتمنى من رجال الأعمال والمحبين لأبي هشام إنشاء مركز غسيل كلى أو مركز لزراعة الكلى في إحدى المناطق المحتاجة في المملكة ويُطلق عليه (مركز الشيخ عبدالرحمن بن صالح الشثري لغسيل الكلى أو زراعة الكلى) تقديراً لجهوده -رحمه الله- وأعماله في خدمة هذه الفئة الغالية على قلوبنا جميعاً.
** **
- د. علي بن عبدالعزيز الشثري