ما لبعض الشعراء المُجيدين يواري إبداعه عنا؟! أيضنّ علينا بإشراقة شعره في زمنٍ يشكو فيه فضاء الشعر من قتر المتشاعرين، أم أن هذا الشاعر الضنين لا يرى في شعره إشراقة ولا أناقة، فهو يواريه خجلًا ووجلًا؟! لئن كان سببُ تواريه عنا السببَ الأول فهو مصيبة، ولئن كان السببَ الآخر فالمصيبة أعظم!
عَنّ لي هذا السؤال المُمِضّ بعدما لقيت أحد الشعراء الذين دوّنوا أشعارهم في كراريس، وأودعوها في أدراج مؤصدة، لا تقرؤها إلا ألواح تلك الأدراج! وهل تعي الألواح الشعر وتطرب له؟ إنها كأخيها الإنسان الجامد إحساسًا والبليد فهمًا (أبوهما الجمود وأمّهما البلادة) لا يعيان ولا يطربان! أنشدني ومن معي هذا الشاعرُ شيئًا من شعره وشعر غيره، فاستمتعنا، وعجبنا له شاعرًا وراوية! وأسِفْنا على شعره سجينًا في تلك الأدراج؟!
صاحبي المدّثّر بجلباب التواري شاعر مُجيدٌ في زمن كثر فيه الشعراء وقلّ المُجيدون منهم، أجلْ، إنه لكذلك وإن نظراءه قليلون، لا أجازف بهذا الحكم ولا أجانف!
وإن صاحبي هذا لراويةٌ للشعر تستعذب الأذن تدفّقَ فمه بشعر غيره! وحاسّة الأذن ها هنا تقوم بوظيفتَي العين واللسان؛ إذ إن العين ترى تدفّق الماء، واللسان هو الذي يدرك عذوبته، أما تدفّق الشعر من فم الراوي فلا تراه العين ولا يستعذبه اللسان، بل تحسّه الأذنان فتستعذبانه أو تمجّانه!
إن أرباب الأدب ومتذوّقيه مبتلَون في هذا الزمان ببلايا من أجلِّها بليّتان: تطاول أدعياء الأدب وتجرّؤهم على إيذائنا بهرائهم الذي يستأدبونه (أي يعُدّونه أدبًا)! وتواري الأدباء حقًّا وطيُّهم أدبهم الذي لا يستأدبونه، ونحن نصطلي بأوار أولئك حنقًا وغيظًا، ونطلب زلال هؤلاء لنطفئ به الغُلّة ولا نكاد نجده! فآجرنا الله في بليَّتَيْنا وأنزل علينا الصبر وأجزل لنا الأجر.
قرأت مرةً هراءً يزعم صاحبه أنه شعر، ولا ينبغي له أن يكون شعرًا تستسيغه الأذواق ولا شعيرًا تزدرده البهائم، فلما قرأته أسفتُ لهذا الشعر الذي تسوّر محرابَه قصير القامة والذراعين. وكاد الأسف يحرقني حين قرأت أن هذا (الشُّعرور) أستغفر الله! بل (النُّثْرور) قد أصدر ثلاثة دواوين (شعرية)! واخجلتاه! واخجلتاه! ولقد راعني مرةً أحد أمثال هذا -لا كثّرهم الله- أن عرض عليّ هراءه طالبًا إليّ أن أراجعه لغةً وأسلوبًا، وحين رأيت أن عطّاري الدنيا لا يمكنهم أن يصلحوا ما أفسده فررت منه فرار الصحيح من المجذوم مردِّدًا: (الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاهم به)!
ما لي ولهؤلاء! دعوني في صاحبي هذا الذي لن أفصح لكم عن اسمه؛ لأني أخشى أن يغضب عليّ فيجعل بيني وبينه سدًّا لا يستطيع إقدامي أن يَظهَره، ولا يستطيع شفعائي له نقبًا! كنت سمعت به قبل أن أراه، بل كنت قد رأيته قبل لقائي هذا به في مجلس أو مجلسين، لكنني لم أروَ بعذب شعره فيهما كما رويت به في هذا اللقاء. لقيت هذا الشاعر المتواري في بستان، تحاول مفاتنه أن تُغري عينيَّ وأذنيَّ بالانصراف عنه إليها، ولكن عينيَّ لم تبرحا محيّا هذا الرجل، ترِفّان لتجاعيده متراقصةً، ولفمه مفترًّا عند إنشاده الشعر، ولم تُشغل أذنيَّ بغير حديثه الغرِد وترنّمه الهزِج الذي فعل الأفاعيل بتجاعيد محيّاه، وفمه، وبعيني وأذني .. كلما أنشد شعرًا قلت: هيهِ.. هيهِ.. مستعيدًا مستزيدًا، وإني لأرجو أن يفطن القارئ إلى شيخوخة صاحبي التي وشَتْ بها لفظة (تجاعيد)، ولكني لا أرجو أن يعلم صاحبي الشيخ بهذه الوشاية. كان لقائي به قُبيل صلاة المغرب، وامتدّ اللقاء إلى صلاة العشاء، لم يقطع حديثه إلا أداء الصلاة، وليس سوى أداء العبادة قاطعٌ محمود لمثل هذا اللقاء والحديث العذْبَين.
أيها القوم، إني داعٍ فأَمِّنوا، وما لي لا أدعو وما لكم لا تؤمّنون وفي هذا الدعاء -لو استجيب- خيرٌ للأدب وأهله وأيُّ خير!
اللهم انزع الجسارة من قلوب المتشاعرين المجاهرين واقذفها في قلوب الشعراء المتوارين، اللهم امنح هؤلاء ثقة أولئك، اللهم إنا نعوذ بك من غثاثة القول، اللهم طهّر ألسنتنا منه، ونقّ أسماعنا منه.
اللهم أطلِقْ أقدامَ الأَكْفاء وقيّد إقدامَ الأَكِفّاء في دروب الأدب شعرًا ونثرًا، اللهم اهدِ صاحبي المدّثّر وأمثاله، وانزع عنهم دثارهم، واكشف لنا مفاتن شعرهم ومحاسن أدبهم، وألبس المتشاعرين دثارًا يستر سوآتهم، ويواري عنا عوارهم وعوراتهم، اللهم لا تؤاخذنا بمجاهرة المتشاعرين فينا بهرائهم، ولا بمحاباتنا لهم وتقصيرنا في إنكار منكرهم، اللهم لا تُهلك صالحي الأدب وقد كثر الخَبَث فيه.
** **
- فهد بن علي العبودي