الرواية ليست كلّ شيء في عالمنا، لكنَّ يمكنها أن تقولَ كلّ شيء، من هذا المنطلق يمكن أن نحدد ملامح رواية ( فورور) للروائي نزار عبد الستار، والصادرة عن دار نوفل في بيروت، التي تبتكر الحدث الذي لم يحدث مع شخصيات واقعية مشهورة بعالم الفن السياسية كفريد الأطرش ومريم فخر الدين وجيهان السادات والشهبانو فرح ديبا بلهوي، وهذه الشخصيات لم تأخذ دور البطولة لكنها وضعت القارئ في عالم الشهرة الخفي، وهو يتلاءم مع الموضوع الرئيس للرواية، فهي تنطلق من رحلة البطل صابر عفيف الوكيل الفني للرسامين العالميين في لندن، ويعمل مع تاجر الأعمال الفنية، ومهمته هي البحث عن الفرورو السواريه الشنشيلا البيج العائد لأمَّه وحيدة جميل التي كانت تعمل مونولوجست في كباريه ( مولان روج) في بغداد، وأثناء رحلة البحث يعرض البطل كواليس الفن والمتاجرة باللوحات، وكيف يتمّ صنع شهرة الفنان التشكيلي في لندن مدينة الفن، وهنا تظهر خبرة الكاتب في تحليل الشخصيات سوسيولوجيا عبر بطل روايته العراقي الانكليزي صابر عفيف الذي عاش في لندن نصف قرن وجمعته علاقة بعشيقته سيلين، فنرى أن ذات البطل اندمجت مع الآخر المخلتف ثقافيا واجتماعيا واستطاعت أن تتحد الوجوديات في الذوات الأخرى، فيقول الراوي بضمير الأنا وهو البطل نفسه: «الانكليز لديهم استعدادات جينية لتحويل القضايا المصيريّة إلى تفاصيل تافهة.
يعشقون الكلمات السِلسة، لكنهم يُريدون من الذي يستعمون إليه أن يكون مسلّيا، ولذيذا مثل حلوى الفنادق. لو أنّني حدّثتهم عن فورور أمي لنظروا إليّ طويلاً، وقال أحدهم بملل: من فضلك سيد عفيف ما علاقتنا بهذه القصة، ولماذا أنت مهتم بأخبارنا إلى هذا القدر... عندما يكون العالم هادئا ومسالما، وأمواله كثيرة، يكون لازما إحداث انقلاب في الذوق والرؤية الفنية، تموت مواهب ويظهر صابر عفيف .. كانت أمي تقف تقضي ربع يومها بمواجهة المرآة. تضع الفورور الشنشيلا على كتفيها وهي بالأندروير، بينما أقفُ خلفها منتصبا كمسمار متأملاً جمال ساقيها مأخوذا بهلال إليتها عند مطلع الفخذ»
من الصفحات الأولى في الرواية يكشف نزار عبدالستار عن الشخصيات الرئيسة وتعيش مع من ؟وما مشكلتها الوجودية ؟ وما فكرة القصة؟ وهذه المشكلة تعطي دفعاً دراميا للحبكة باتجاه خاتمتها، ومن المنظور السينمائي يمثل هذا النص الفصل التمهيدي لسيناريو الفيلم النموذجي الذي يحتوي على موضوع الحبكة وهي كيفية استعادة فورور أم البطل الذي تنقل بين مصر ولبنان والكويت وباريس حتى استقر عند الشهبانو فرح ديبا بهلوي زوج الشاه الايراني.
ومن يتأمل شخصية البطل صابر عفيف في حديثه عن أمه وتأمل جسدها يلاحظ أن الروائي استطاع أن يتنزع من بطله عقدة تقديس جسد المحارم كالأم والأخت وحتى الزوجة، لأنَّ العادة عند الكاتب العربي هي أن يتعامل مع جسد شخصيات رواياته كأمهات أو بنات البطل بتقديس عالٍ إذ يبتعد عن وصف جماليته أو قبحه، وهذا خلل فني وسيكولوجي وهو عدم انسلاخ الكاتب/ة عن شخصياته،و ينظر إليهن بوصفهن مادة فنية تحرك السرد بمعزل عن جسدهن المحصن، لكن نزار عبدالستار أجهض النسقية المتداولة وصار يؤسس لرؤية عالم خاصة به تنظر إلى الجسد بوصفه ذاتاً، فهو لا يعزل الجسد عن الذات، كما هو موجود في رؤية العالم، وهذا ما أتاح له الحرية في ابتكار الأحداث التي لم تحدث مع شخوصه الواقعية عندما جعل صابر عفيف يلتقي بمريم فخر الدين لاستعادة فورور أمه التي لبسته في أغنية ( بتلوموني ليه) لعبدالحليم حافظ في فيلم حكاية حب، عندما اشتركت وحيدة جميل كممثل كومبارس : « ترتدي فستان ذيل سمكة وشعرها مقصوص على هيئة أفعى الكوبرا، وقبل تصوير أغنية بتلومني ليه أعطتكِ فورورها السواريه الشنشيلا البيج لكي تظهري فيه مع عبدالحليم حافظ في الأغنية، أنا صابر ابنها الوحيد، وقد جئت من لندن كي أستردَّ بعد إذنكِ فورور أمي المونولجست كباريه مولان روج في بغداد».
بهذا النص يقدم البطل نفسه للفنانة مريم فخر الدين التي تحدثه عن واقعة الفرورو بحوار يدور بينهما والذي أسميه بفعل المجابهة هو مصطلح خاص بالسيناريو إذ يكشف ما هدف الشخصية البطلة من البحث عن حلٍّ لقضيتها، التي تتطلب خلق عقبات وصراعات لنيل الفورورو المفقود، فتخبره عن علاقة أمّه بفريد الأطرش، وأنها أرسلت الفورور معه لكن أصيب بجلطة ممّا جعلها تبيعه إلى رجل كويتي، وعرضت على صابر أن تعطيه مبلغا من المال عوضا عن الفورور فرفض وطلب منها الوصول إلى الرجل الكويتي، وتظهر العقبات بوجه البطل، ولم تكن خاصة بالبحث عن فورورو أمّه ، وإنما بعمله مع مافيا الفن والمتحكمة بسوق اللوحات مما يشير إلى تكامل البناء الدرامي المستمدة أحداثه من امتزاج شخوص واقعية بحدث غير واقعي صنعته مخيلة الروائي لاسيما ببناء المشاهد بتكنيك سينمائي جعل من عوالم الرواية حُلما لكل قارئ لم يجرب الحياة المخملية الخالية من دخان الحرب، والصراعات الداخلية، فهل هذه الحياة التي يتمناها المرء؟ بالرغم من عدم مثاليتها.
رواية فورورو تفتح نافذة جديدة في مدينة السرد العالمي، وهي تغوص في الوجود عبر أدواته الفنية والأدبية إذ يشير الروائي نزار عبدالستار أن بإمكان المبدع أن يكتب تخيلاته التي لن تحدث ولا صلة لها بالواقع ومكانه غير شخوص حقيقية يمكن للروائي التحكم بها وخلق لها سيرة ذاتية غير موجودة الا بالرواية .
** **
- موج يوسف