الأشجارُ لا تصرخ.. لكنّها تجرح قلب الريحَ حينَ تتسامى إلى دخان.
ذابَ ظلُّ الغابةِ فوقَ حجارةٍ تحفظ أسماءَ الجدّات، واحترقَ الدربُ الذي عبره الأجدادُ وهم يرسمون بخطواتهم تاريخَ البلاد ويُمهِّدون بسواعدهم طريقَ الأولاد إلى المدرسة.. احترقتِ المدرسةُ التي في الروح كما القمحُ الذي أطعَمَ الحكاياتِ في مواسمِ الحرب.
النارُ لم تسألْ عن الجذورِ، ولم تأبه بحرقةِ الغيوم التي نزفت لتستنطقَ التراب..
لم تخجلْ حتّى من سربِ الطيورِ وهو يُكابدُ الوداع.. وهذا الرمادُ كم يشبهنا حينَ خانتنا البلادُ وتداعى علينا رصاصُ الأمم ليثقبَ فينا قوامَ القصبِ وتتحوّل صرخاتُنا إلى ناياتٍ تجرحُ صمتَ العالم وتذوي كالصدى بين الجبال.
نقولُ: لا بأسَ يا أمّنا الأرض،سنزرعُ بين أصابعنا قنطرةً من الحنين، ونعبرُ بها إلى غدٍ لم يشتعلْ بعد.
هذه الحرائقُ الممتدّةُ في أرواحنا قبل غاباتنا باتت عنوانًا مُروّعًا لفقدٍ مركّبٍ تتداخل فيه الجغرافيا بالوجدان، والبيئةُ بالسياسة، والذاكرةُ الشخصيّةُ بالخراب الوطنيّ، ففي كلّ مرةٍ تندلع فيها ألسنة اللهبِ في الجبال، لا تُحرقُ الأشجارَ وحدها، وإنما يستعرُ معها إحساسٌ كاملٌ بالأمان والانتماء، فالغابة في ساحلنا تتجاوزُ لكونها خلفيّةً طبيعيّة، إلى كيانٍ حيٍّ يشكّل جزءًا من الهويّة الوطنيّة، ظلّتْ لسنواتٍ طويلةٍ تمنحُ الناسَ الظلالَ والخير والطمأنينة. ولهذا حين تشتعلُ يحترقُ شيءٌ من الناسِ أنفسِهم، وكأنّ النارَ تلتهمُ تفاصيلَهم الصغيرةَ وذكرياتِهم المغروسةَ بين الأغصان.
تتكرّرُ هذه الحرائقُ بوتيرةٍ مُخيفة، في مواسم الحرّ والاحتباس، وأيضًا في مواسمِ التوتّر السياسيّ أو التغييرات الإداريّة أو الاقتصاديّة، حتّى أصبحت بعضُ التساؤلات المعلّقةِ أكثرَ إلحاحًا من النيران ذاتِها: من يشعل الغابةَ؟ ولماذا؟ هل هو الإهمالُ؟ أم الاستهتارُ؟ أم أنّ هناك من يرى في الأرض المحروقةِ فرصةً لإعادةِ تشكيلِ الواقع أو فرضِ مشروعاتٍ مشبوهةٍ؟ أم أنّه تخريبٌ مقصودٌ، يهدف إلى إعاقة الدولة عن مسؤوليّاتها في إعادةِ البناءِ وفرض الأمان واستعادةِ ثقة الناس؟
الشكوكُ تتزايد مع كلّ حريقٍ جديد، ويشعرُ الأهالي أنّ النيران لا تأتي صدفةً، وأنّها لا تُقابَل بما تستحقُّ من المساءلةِ، بل تُطوى سريعًا كما تُطوى صفحاتُ الوفيّات في الأخبار العاجلة.
وفي الموازاةِ مع الأثر النفسيّ المُفجعِ، يتكشّفُ الأثرُ البيئيُّ المدمِّرُ عامًا بعد عام، مع ضياع آلاف الهكتارات من الغطاء النباتيّ، وانقراضِ نباتاتٍ نادرةٍ، وهجرةِ الطيور التي كانت تستريح في تلك القممِ، وتلوّثِ الهواء برمادٍ كثيفٍ يقضم رئة الطبيعة والإنسان معًا. المسألةُ لم تعدْ حقًّا خسارة مساحةٍ خضراء، بقدر ما هي كارثةٌ تخلخلُ التوازنَ البيئيّ وتُضعف التربةَ، وتؤثّر في الزراعة والمناخ المحليّ. أمّا الخسائر الاقتصاديّة فتمتدّ إلى المزارعين الذين خسروا مواسمَهم، وأراضيهم، ومصدر رزقهم الوحيد دون تعويض.
ويظلُّ الأشدُّ وقعًا من الخسارة الماديّة الشرخَ النفسيَّ الذي تتركه النيرانُ في النفوس، هناك ما يتشظّى داخلَ الإنسانِ حين يصدمُهُ عجزُه ويرى أرضَه تأكلها النارُ، وحين يرى الغابة التي تربّى فيها تتحوّل إلى رماد، دون أن يُحاسَبَ المُتسبِّب به.
هناك.. في القرى الجبليّة يصبح الحريقُ جرحًا مفتوحًا تتناقله الذاكرةُ الجماعيّة بصمتٍ ثقيل. فمن لم يحترق بيتُه احترقت أوراقُ ذاكرتِه، ومن لم يفقدْ شجرةً فقد الثقة. وهكذا تتفتّتُ الروابطُ، وتنشأ قطيعةٌ خفيّةٌ بين الناس وبين ما تبقّى لهم من البلاد.
لتصبح هذه الحرائقُ مرآةً لمعادلاتٍ مختلّةِ الطرفينِ ينعكسُ فيها تفكّكُ العلاقةِ مع الأرض والانكفاءُ عن المسؤوليّةِ الوطنيّة تجاه البيئة الطبيعيّة. وهي في الآن ذاته فرصةٌ لفهمٍ أعمق لما نعيشه: كيف أصبحنا نعتاد الخراب، ونشيّع الأشجارَ كما نُشيّعُ الناسَ في الحربِ بلا مساءلةٍ ولا عزاء.
قد لا يمكننا منعُ النيرانِ المستعرةِ عن الطبيعة، ولكن يمكننا حتمًا أن نمنعَ أن تكون نيرانًا مُفتعَلةً ناتجةً عن الجشع أو الإهمال أو الفساد. يمكننا أن نبني استراتيجيّةً وطنيّةً لإدارةِ الغابات وتعويضِ المتضرّرين، وتثقيفِ الناس وزراعةِ الثقة من جديد، لأنّ الغابةَ يمكنُ أن تنبتَ مرّةً أُخرى إذا سُقيت بالحبِّ والاهتمام، لكنّ الإنسانَ حين يحترقُ داخلُه.. فمن يُعيد بناءَه..؟
** **
- مروة حلاوة